والبتر يعني الالغاء، وقطْع المُعارض من جسم المجتمع. وكان ممثّلو البعث السوري في دمشق وبيروت، أشهر رافعيّ هذا الشعار والمهدّدين به.
ولم يكن مجرّد تهديد نظري أو تخويف معنوي، بل سلوك عملي ذهب ضحيّته عشرات المعارضين السياسيّين من سوريّين ولبنانيّين، على مدى أربعة عقود، ولا يزال تطبيقه مستمرّا حتّى هذه الساعة، وآخر "تجلّياته" محاولة اغتيال الدكتور سمير جعجع.
وقد اتّخذت سياسة "البتر" نهجيْن: البتر الفردي، أي اغتيال السياسيّين والاعلاميين والعسكريّين ورجال الدين المعارضين، والبتر الجماعي، كما حصل في حماه سنة 1982 ويحصل اليوم في حمص وادلب ودرعا وأرياف دمشق وحلب وطول الأرض السوريّة وعرضها، وكما جرى في لبنان من الأشرفيّه الى زحلة والدامور وصيدا وطرابلس وبعلبك وبعبدا وبسوس وبيت مري، ومعظم الأرياف ومناطق الأطراف.
وليس صحيحا أنّ ذهنيّة البتر توقّفت أو انتهت، في لبنان، منذ نهاية 2007 الى اليوم، بل كانت في حالة كمون وتحفّز. ولم يكن توقّفها الاّ تدبيرا موقتا كي يحلّ محلّها منطق الغلبة بالسلاح والاجتياح، ما بين 7 أيّار 2008 و 5 نيسان 2012.
حين يستولي النظام وأذرعه المحليّة على السلطة يُصبح معارضوه رهائن، ولا لزوم لقتل الرهينة الاّ في حالة الضرورة القصوى، حين يشعر بتنامي قوّتها وتدهور قوّته. فخطر صاحب نظريّة البتر يتضاعف كلّما أحسّ بضعفه. يُصبح أشدّ شراسة وفتكا وهو يترنّح.
كان مطمئنّا الى قوّته القامعة منذ 4 سنوات، "فتسامح" مع محكوميه ولم "يبترهم". ولكنّه الآن، قلق على مصيره، فاشتدّ حقده، وقويت نزعته الأصليّة الى الغاء خصومه.
وسبق له أن أعطى اشارات ضعف وانتقام قبل بضعة أسابيع، وتمّ تجنّب ثلاثة مشاريع قتل: النائب سامي الجميّل واللواء أشرف ريفي والعميد وسام الحسن.
وفي استعادة سريعة للمراحل الكبرى لسياسة البتر، بالاغتيال، نجد أنّ أُولاها كانت سنة 1977 بحذف كمال جنبلاط من أمام مشروع الهيمنة على لبنان والورقة الفلسطينيّة، وثانيتها سنة 1982 بالغاء مشروع بشير الجميّل لبناء دولة سيّدة ومستقلّة، وثالثتها 1989 باغتيال رينه معوّض لفرض تطبيق طبعة النظام لاتفاق الطائف، ورابعتها 2005 باغتيال رفيق الحريري لمنع انخراط جميع اللبنانيّين في مشروع "لبنان أوّلا"، وخامستها امتدّت ثلاث سنوات باغتيال رموز وقادة من "ثورة الأرز" لخنق انتفاضة الاستقلال والعلاقات النديّة والعدالة الدوليّة.
أمّا المرحلة السادسة الراهنة، فهي الأخيرة في حساب الربيع العربي، وفي حساب النظام نفسه وأدواته اللبنانيّة. وقد بات واضحا ومحسوما أنّ محاولة قتل د. جعجع، بعد تهديد سعد الحريري وقيادات أُخرى، ترمي الى وقف تمدّد وتنامي قوّة الاستقلاليّين اللبنانيّين في الداخل اللبناني، وفي الربيع العربي، وتحديدا السوري.
ولا يخفى أنّ النظام مرتبك من تحرّر الأقليّات من وصايته، وتحديدا المسيحيّين. وقد كان صوت صبيّة مسيحيّة سوريّة كافيا، على شاشة "القوّات اللبنانيّة"، ليهزّ كلّ ما بناه النظام من استتباع مسيحيّين سوريّين ولبنانيّين، ودفْعهم الى واجهة الدفاع عنه. وهو يدرك أنّ تطوّر الموقف المسيحي اللبناني على حساب الملحقين به، يزيد من ضعفه. فكان لا بدّ من عودته الى السياسة المزمنة: البتر.
أراد أن يبتر مسيحيّي لبنان عن مسيحيّي سوريا والعالم العربي، كي يبقى له تابعوه، ويتحكّم بالجناحيْن. لم يوفّق. سيعاود الكرّة. ولا تهمّ اليد التي تنفّذ، هي آلة صمّاء، تعمل مرّة بالكمائن، مرةّ ثانية بالسيّارات المفخّخة، وثالثة قتلا بالرصاص في المنازل والمواكب، ورابعة بالقنص المتطوّر عن بعد مع رصد طويل وكاميرات ومناظير.
لا نعرف اذا كان هذا "العقل" الجحيمي قادرا بعد على ابتكار وسائل جديدة للبتر (الصواريخ مثلا!). سيحاول، انّها مهنته.
لكنّنا نعرف أنّه دخل مرحلته الأخيرة في السلطة، وفي فنون الالغاء والحذف. سواء مع الشعب السوري أو مع اللبنانيّين وقياداتهم.
أمّا الأيدي – الأدوات التي تنفّذ قرار البتر، أو تحجب "داتا" الاتصالات عن التحقيق، فلتفكّر قليلا في مصيرها، بعد فرار صاحب القرار.
::الياس الزغبي::
"لبنان الآن"
0 comments:
إرسال تعليق