الاثنين، مايو 07، 2012

من المسألة اليهودية .. إلى المسألة الصهيونية



سمير كرم
السفير

لا يستطيع المرء أن يعرف اذا كان ليبرمان يصدق نفسه في ما يقول، وهو الــذي يرأس وزارة الخـارجية في دولة تتـولى في هــذا الوقت بالذات تــجريد الشعب الفلسطيني من هويته ومن حقه في الوجود

وفي دولة مستقلة ذات سيادة وقادرة على البقاء ... بل حقه في أن يعيش على أرضه في سلام،

حيث يجد الموطن والمأوى والحرية وحيث يؤسس النظام السياسي الذي يريد.

إنه في الحقيقة يتحدث عن «المسألة الصهيونية» لا عن «المسألة اليهودية». وأقصى ما تتمناه إسرائيل وأنصارها اليوم هو أن لا يعي العالم أبدا وجود أي فرق بين المسألة اليهودية والمسألة الصهيونية..

بين العداء للسامية والعداء للصهيونية. ذلك أن الوجه الحقيقي للعقيدة الصهيونية يتضح أكثر فأكثر أمام العالم باعتبار هذه النزعة العنصرية التي أرادت أن تكون دولة إسرائيل دولة للصهيونية تعادي

كل من يمكن أن تتعارض عقائده أو مفاهيمه أو مصالحه مع هذه الدولة حتى

وهي تتبنى أسوأ أساليب الفاشية ضد الفلسطينيين.

عقد في إسرائيل مؤخرا مؤتمر حول العداء للسامية. أمر عادي ومتوقع في أي وقت في إسرائيل.
وكان المتحدث الرئيسي في المؤتمر أفيغدور ليبرمان وزير الخارجية الاسرائيلي. وهذا أيضا أمر عادي ومتوقع .. فليس في إسرائيل أصلح من ليبرمان لإطلاق المفاهيم المغلوطة والخاطئة ومتابعتها بإطلاق التحذيرات والإنذارات ضد «المعادين للسامية» ... وبصفة خاصة ضد اليهود الذين يعدون من وجهة نظر صهيونية بحتة يهوداً معادين للسامية.
إن المقصود بالعداء للسامية عندما يكون موضوعاً للنقاش أو البحث الرسمي في إسرائيل هو التجرؤ على انتقاد إسرائيل وسياساتها وقادتها وخططها وهجماتها، في أي مجال كان هذا النقد موجهاً.
كانت فرصة للوزير اليميـني المتــطرف ليعلن «أن نوعا جديدا من العداء للســامية موجه الآن الى إسرائيل بهدف تقويضها، وبالمثل بهــدف بث العداء ضد الشعب اليهودي». وعزا ليــبرمان ظــهور هذا النوع الجديد من العداء للسامية الى عام 2001 وتحديدا الى مؤتمر ديربان (جنوب افريقيا) لمناهضة العنصــرية. اذ كان المؤتـمر قد أدان بعــبارات واضــحة صريحة إسرائيل «في ذروة صــراع دموي بين إسرائيل والفلسطينيين». وأضاف ليبرمان انه «لا أمة مستقلة أخرى في العالم يوضع حقها في الوجود بصفة مستمرة موضع الشك مثلما يوضع حق إسرائيل».
وبينما لم يشر ليبرمان الى دور جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في حربها على غزة كسبب لظهور العداء للسامية في صورته الجديدة، فإنه زاد جرعة المبالغة ليقول «إن الناس الذين يقفون وراء هذا الهجوم العالمي ضد إسرائيل قد تجاوزوا الحدود. إنهم يسعون الى تدمير الدولة اليهودية ونزع حق الشعب اليهودي في أن يعرّف نفسه».

لا يستطيع المرء أن يعرف اذا كان ليبرمان يصدق نفسه في ما يقول، وهو الــذي يرأس وزارة الخـارجية في دولة تتـولى في هــذا الوقت بالذات تــجريد الشعب الفلسطيني من هويته ومن حقه في الوجود وفي دولة مستقلة ذات سيادة وقادرة على البقاء ... بل حقه في أن يعيش على أرضه في سلام، حيث يجد الموطن والمأوى والحرية وحيث يؤسس النظام السياسي الذي يريد.
لا يستطيع المرء أن يعرف اذا كان ليبرمان يصدق نفسه حين يردد هـذه الأكاذيـب الـقديمة وهو الذي يــدرك تمــاما أن اليــهود في إسرائيل أو حيثــما كانوا ليسوا معرضين لأي نوع من الظــلم أو الضــغط أو سلب الحـقوق ... فهم ينعــمون بقــوانين في كثير من بلدان العالم تُجرّم إظهار أية مشـاعر كراهية ضدهم.


إنما أراد الوزير الإسرائيلي أن يستخدم هذا المؤتمر سلاح العداء للسامية في بث مجموعة من الأكاذيب والإنذارات. فهذا السلاح لا يزال موجوداً وتريد إسرائيل أن يبقى وأن يستخدم حتى وإن كانت القضية التي من أجلها كان قد صنع اختفت من الوجود.
لقد عاشت «المسألة اليهودية» لأكثر من ألفي سنة، من العصر القديم منذ أيام هزيمة مملكة إسرائيل على أيدي الإمبراطورية الرومانية ... ولكنها اختفت بقيام دولة إسرائيل. ولم يبق إلا سلاح العداء للسامية يبرر لإسرائيل وأنصارها في العالم كل ما تفعله وترغبه، بما في ذلك ارتكاب جرائم الحرب بحق الفلسطينيين.
لكن لا بد أن الوزير الإسرائيلي يتحدث عن شيء ما له وجود في الواقع حين يسمح لنفسه بأن يذكر حق الشعب اليهودي وحق إسرائيل في الوجود؟ يتساءل المرء.
إنه في الحقيقة يتحدث عن «المسألة الصهيونية» لا عن «المسألة اليهودية». وأقصى ما تتمناه إسرائيل وأنصارها اليوم هو أن لا يعي العالم أبدا وجود أي فرق بين المسألة اليهودية والمسألة الصهيونية.. بين العداء للسامية والعداء للصهيونية. ذلك أن الوجه الحقيقي للعقيدة الصهيونية يتضح أكثر فأكثر أمام العالم باعتبار هذه النزعة العنصرية التي أرادت أن تكون دولة إسرائيل دولة للصهيونية تعادي كل من يمكن أن تتعارض عقائده أو مفاهيمه أو مصالحه مع هذه الدولة حتى وهي تتبنى أسوأ أساليب الفاشية ضد الفلسطينيين.
إن أحداً من المسؤولين الصهاينة لم يجب بعد عن السؤال الذي طرحه المفكرون اليساريون أول ما طرح، وبعد ذلك في أوروبا ثم على نطاق عالمي: لماذا سكت اليهود في العالم لأكثر من ألفي سنة ليعلنوا أن عقيدتهم الدينية منحتهم فلسطين وطناً ليقيموا فيها دولتهم؟ لماذا لم يصبح هذا هدف الباحثين عن حل للمسألة اليهودية إلا بعد أن تبلورت العقيدة الصهيونية وأصبحت لها مؤتمرات وقرارات واتصالات دولية وعصابات مسلحة؟ لماذا لم تظهر على مدى ألفي سنة أي محاولة من أي جماعة يهودية للهجرة الى فلسطين باعتبارها أرض الميعاد؟
ليس من إجابة لهذا السؤال سوى أن ظروف القرن التاسع عشر هي التي أتاحت نشأة الحركة الصهيونية في حضن الاستعمار البريطاني. حينما كانت الدولة العثمانية صاحبة الحكم على فلسطين والبلاد العربية المحيطة بها في مرحلة أفول لا تستطيع أن تحافظ على ممتلكاتها في وجه الهيمنة الاستعمارية البريطانية وبعد ذلك في وجه هيمنة القوة الأميركية.
منذ ذلك الوقت جرت مياه كثيرة في أنهار فلسطين والمنطقة العربية وأوروبا وأميركا، لكن الحركة الصهيونية لجأت الى كل السبل لنيل مطالبها من خلال المناورات الدبلوماسية والقدرات المالية الفائقة وبعدها بواسطة عصابات القوة المسلحة. وفيما كانت المسألة اليهودية تبلغ ذروتها بصعود النازية، لم تتورع الحركة الصهيونية عن التحالف مع النازيين دون أن تخفف من وطأة شكاواها من عنف النازية ضد اليهود تحت سلطتها. بل لم تتورع الحركة الصهيونية عن البوح باغتباطها بكل إجراءات النازيين والفاشيين وغيرهم ضد اليهود.
لم يكن العداء للسامية ـ في أي وقت ـ نقمة في نظر الحركة الصهيونية طالما كان يحقق للحركة خطوات نحو هدفها الأول والأكبر: دولة صهيونية في فلسطين. وفيما كانت المسألة اليهودية قد حققت ـ على يد الحركة الصهيونية ـ وعد بلفور في عام 1917، استطاعت الحركة أن تأخذ من هذا الوعد ما وعدها به وألقت بعيدا بل محت الشرط الذي حدده وزير الخارجية البريطاني بلفور في رسالته الى الرأسمالي الكبير والزعيم الصهيوني روتشيلد، وهو الشرط الذي نص على: «أن يكون مفهوماً بوضوح أن شيئاً لن يتخذ ويكون من شأنه الافتئات على الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية القائمة في فلسطين».
كان هذا أول خرق صهيوني واضح لحقوق غير اليهود في فلسطين، وكان في الوقت نفسه أول تواطؤ واضح من الاستعمار البريطاني مع الحركة الصهيونية. ولم يلبث هذان الطرفان أن دخلا بعد ثمانية أعوام فقط من تأسيس إسرائيل في تواطؤ عسكري ضد العرب في حرب السويس عام 1956، وانضمت الامبريالية الأميركية الى هذا التواطؤ في حرب عام 1967.
من وقتها أصبح واضحا أن المسألة اليهودية قد تلاشت وأن المسألة الصهيونية أصبحت لها الأولوية. لم يعد اليهود مضطهدين. أصبحت لهم دولتهم، وأثبتت أنها بدعم أميركا أساسا قادرة على شن الهجمات على محيطها والخروج بمكاسب إقليمية. واذا اعتبرنا أن الوضع الراهن في الشرق الأوسط هو نتيجة لحرب 1967 أكثر مما هو نتيجة لحرب 1973 ـ وهو كذلك بالفعل ـ نستطيع أن نفهم كيف أن المسألة اليهودية ما عاد لها وجود.
من وقتها ارتكزت الحركة الصهيونية ـ بالأحرى الحكومة الصهيونية التي تحكم إسرائيل ـ على أربع خرافات أساسية شكلت جوانب العقيدة الصهيونية في التطبيق السياسي والاستراتيجي: أرض بلا شعب (فلسطين) لشعب بلا أرض (اليهود) ـ الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط (إسرائيل) ـ الأمن هو القوة المحركة لسياسة إسرائيل الخارجية ولا بد أن تبقى القوة العسكرية الأولى في الشرق الأوسط والرابعة في العالم ـ الصهيونية هي الوريث الأخلاقي لضحايا المحرقة (الهولوكوست).
بذلت إسرائيل ـ حكومة وراء اخرى ـ كل الجهود الممكنة لتطبيق هذه الخرافات الأربع، ولكن تصميم الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضاته أكدت وجود هذا الشعب وحقوقه الإنسانية والوطنية على مدى السنوات منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي حتى الآن. ولكن شيئا فشيئا بدأت الصهيونية تتكشف للعالم كحركة استيطانية تعتمد على القوة المسلحة لدولة إسرائيل. لهذا تتشبث بالاعتراف بإسرائيل «دولة يهودية» لا دولة صهيونية.
وأخذ يبدو بوضوح أن إسرائيل لا تستطيع أن تستمر في الاعتماد على عقدة الذنب الأوروبية التي أفلحت الصهيونية في تغذيتها في الضمير الغربي. وأخذ يبدو بوضوح أن هناك بين اليهود من ليسوا صهاينة، بل هم مناهضون للصهيونية بالعقيدة والســياسة. وكما يقول الان هارت المعلق الأميركي المعني بالقضية الفلسطينية: «إن السبب الحقيقي وراء ازدياد صورة إسرائيل سوءاً في العالم هو الشعور الاستثنائي لدى زعمائها بأنهم على حق دائما، واحتقارهم للقانون الدولي وسياستهم التي يمارسونها في الوقت الحاضر والتي تبلغ مستوى استكمال التطهير العرقي لفلسطين باستخدام الطائرات الحربية (الأميركية). ان مزيدا ومزيدا من الناس يرون إسرائيل على حقيقتها: عقبة في طريق السلام».
وصل الأمر الى حد أن أصبحت هناك خشية ـ حتى لدى أولئك الذين يناهضون الصهيونية ـ من أن تؤدي السياسات الصهيونية العدوانية التي ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لتنفيذ أهدافها، الى «انفجار موجة عداء لليهود تبدأ بأميركا». وفي هذه الحالة لن تكون مقاومة هذه الموجة بقبول ما تقدم عليه إسرائيل، بل بجعل الأميركيين والأوروبيين والغربيين عموما يعون الاختلاف بين اليهودية كديانة والصهيونية، على حد تعبير الدكتور دانييل غورديس النائب الأول لرئيس «مركز شاليم» في القدس، وهو مركز يعد بمثابة معهد للبحوث والتربية.
الآن تحل المسألة الصهيونية محل المسألة اليهودية.
لم تعد القضية قضية دفاع عن حقــوق الإنسان ليهود العالم والوقوف معهم ضد أشكال الاضطهاد والعزلة، بل هي قضية الوقــوف بوجه الصــهيونية ـ كما تمارسها حكومات إسرائيل المتعــاقبة ـ والتي لا تهتم كثيرا إذا كانت تجر العـــالم كله جرا نحو الــكارثة بادعاء طموح نووي إيراني يهدد إسرائيل بكارثة نووية (...)
وفي مرحلة المسألة الصهيونية أصــبح الاخــتيار أمام إسرائيل بين حرب أهلية طرفاهــا اليهود الصهاينة واليهود المناهضون للصهيونية ... أو نهاية الصهيونية

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية