الاثنين، أكتوبر 29، 2012
غياب قامة صحفية شامخة - عرفات حجازي نقيب الصحفيين الاردنيين
الاثنين, أكتوبر 29, 2012
اضف تعليق
في صمت ووقار، رحل عرفات حجازي·· انسحب بهدوء من مؤسسة الحياة بعد ان كان، على مدى نصف قرن، مالئ الدنيا، وشاغل الناس، ومايسترو العطاء الصحفي، وفارس الحبر والحرف والجملة الرشيقة·
غاب "ابو محمود" بعدما ابلى، في مضمار الصحافة والاعلام والتأريخ، بلاءً متميزاً، حيث اسسس وترأس عدة منابر صحفية، وتولى موقع نقيب الصحفيين لعدة دورات وسنوات، ونهض بدور المعلم والاستاذ لاكثر من جيل من الصحفيين الذين تتلمذوا على يديه، وتخرجوا من صفوف مدرسته، باعتباره احد ابرز رواد الخطاب الصحفي الاردني وآبائه المؤسسين·
عرفته مبكراً منذ شاركته - مع زملاء كرام آخرين - في بعث واحياء نقابة الصحفيين عام 1969، وزاملته مطولاً قبل ان احظى بثقته وصداقته خلال العقود الثلاثة الماضية، واقتبست من فيضه بعض الفضائل والشمائل وفنون المهنة وافانين السياسة، وحين ضاقت الدنيا في وجهي لدى خروجي من السجن وجدت فيه خير اخ مؤازر وداعم ومعين، ولما اصدرت "المجد" قبل ثمانية عشر عاماً بادر من فوره للكتابة فيها، متطوعاً ومتبرعاً، الى حين اقعده المرض قبل عامين·
لقد طوق هذا الراحل الكبير عنقي باكثر من جميل، ووقف الى جانبي اكثر من مرة، وشد من ازري في اكثر من محنة، وتمسك بعرى صداقتي حين انكرني وابتعد عني الكثيرون·· ولعل مما يؤسفني ويحزنني ان يرحل هذا الاخ والمعلم العزيز دون ان يتيح لي رد بعض جميله، وسداد بعض فضله ودينه·
اختلاف الرأي بيننا لم يفسد للود قضية، وتعارض مواقفي السياسية وتوجهاتي الايدلوجية مع مواقفه وتوجهاته لم يجنح به نحو المباعدة والاختصام·· ربما لانه صاحب ذهنية توفيقية وتوافقية تبعث على الاعجاب، حيث كان واسع الخبرة والقدرة والرغبة في فن التجسير بين القناعات، والتأليف بين القلوب، والتشريك بين المواقف، والتنقيب عن القواسم المشتركة بين الافرقاء·
كان "ابو محمود" صادقاً مع نفسه، ومتصالحاً مع محيطه، ومنسجماً في فعله مع فكره وقناعاته، لذلك فقد كان صديقاً لمروحة واسعة من الناس، ورفيقاً للبسطاء والفقراء بمثل رفقته للمشاهير والاثرياء، وحريصاً على المختلفين معه بمستوى حرصه على المؤتلفين في صفه، ونفوراً من الحقد والضغينة والكراهية بقدر ميله للموادعة والتسامح والصفح·
كما ادهشتني مواهب هذا الرجل في تسهيل الصعب، وتذليل العقبات والعراقيل، وتصفية الخلافات وتقريب المسافات بين الناس، وفكفكة المشاكل وتنفيس الازمات بابسط الوسائل والاساليب، فقد صاحبته مطولاً خلال المعارك الانتخابية في نقابة الصحفيين، ورأيت بام العين كيف كان يحول، بما يشبه المنطق السحري، العمل الشاق الى فعل سهل، والخصم العنيد الى نصير حميم، والهدف شبه المستحيل الى خيار ممكن وميسور ومقدور عليه·
ورغم ان كتاباته الصحفية قد اتسمت، في الغالب، بالعقلانية والمحافظة والاعتدال، وان رئاساته المتعددة لتحرير الصحف قد وقعت خلال الحقبة العرفية والتعسفية التي ضيقت كثيراً على حرية التعبير لما يقارب ثلث قرن·· الا انه ظل على الدوام قائداً صحفياً شجاعاً يناصر الكلمة الحرة والرأي الجريء والنقد البناء والطرح المخالف، ويتحمل جراء ذلك الكثير من غضب كبار المسؤولين العرفيين آنذاك، ويحاول - ما وسعته الحيلة والمحاولة - امتصاص غضبتهم ودرء نقمتهم والحيلولة بينهم وبين ايذاء اصحاب تلك المقالات والطروحات المشاكسة·· ولعلي شخصياً قد تسببت له فيما كتبت بقسط وافر من المتاعب والاحراجات·
لقد عاش "ابو محمود" حياته بالطول والعرض، وصال في هذه الدنيا وجال كثيراً، وحظى باوسع مساحة من الشهرة والصيت والاضواء، وتذوق حلاوة النعماء كما تجرع مرارة البأساء·· ولكنه ظل محكوماً في كل اعماله واحواله باعلى درجات المودة والشهامة والاتزان والاخلاص وواجب الصداقة وروح الزمالة ولزوميات الاخاء والوفاء، ولعله كان بين تلك القلة القليلة من الناس التي تضمر الكثير من الخير وليس الشر، وتتفوق عنده موجودات الجوهر على سطحيات المظهر·
ومن هنا فليس يضير هذا الاستاذ الشامخ، او ينتقص من قدره في يوم رحيله، جحود بعض الزملاء، وتقاعس بعض الاصدقاء، وتعامي معظم المسؤولين عن اداء واجب العزاء·· بل سيبقى "ابو محمود" اسماً كبيراً وقامة عالية حتى وهو يسافر في قطار الموت والغياب، فيما يظل الجاحدون والمتقاعسون والمستكبرون صغاراً ونكرات حتى وهم يتقلدون ارفع المواقع الصحفية والمناصب السياسية، ويمتلكون دفة الحاضر وزمام الميديا والاضواء والاعلام·
رحمك الله يا شيخنا "ابا محمود" رحمة واسعة·· وسنظل نذكرك ونترحم عليك حتى نلقاك في رحاب مليك مقتدر
فهد الريماوي
0 comments:
إرسال تعليق