السبت، نوفمبر 03، 2012

القدر يُنصف جُندياً مُقعداً ويحيي شقيقه الشهيد بعد 20 عاما

مأساة عائلة الياس لا تشبه مآسي العائلات اللبنانية التي عانت إبّان الحروب اللبنانية، فهي بالإضافة إلى تعليق أوسمة الشهادة وصور شهدائها على جدران منازلها، لم تكن تدرك أنها ستكون على موعد مع قدر مختلف الطعم واللون يحيي الحياة في أروقة غرفها المظلمة ويبعث الأمل مجدداً في دارتها، وفي قلب الأم الثكلى التي فقدت أيّ معنى لهذه الحياة منذ إصابة ابنها البكر الجندي في الجيش اللبناني منذ 20 عاماً في أسواق بيروت برصاصتين أقعدتاه مدى الحياة أمام عينيها، وباستشهاد مفاجئ لأخيه الأصغر ضابط المدفعية في حرب نهر البارد لتنسف هذه الفاجعة ما تبقى لديها ولدى العائلة من حب للحياة وأمل في المستقبل. فهل يخبئ القدر لهذه العائلة مزيداً من المفاجآت؟. حكاية المأساة بدأت عندما التحق أنطوان جرجس الياس عام 1984 في صفوف الجيش اللبناني، فأُصيب أثناء تأديته خدمته في أسواق بيروت، وفي حيّ البرجاوي تحديداً أو Primo حسب ما يروي طوني لـ"الجمهورية"، بطلقتين من بندقية معادية أصابتاه مباشرة، الأولى تحت الإبط والثانية في اسفل الظهر ليصبح مشلولاً مدى الحياة وهو لم يكمل الـ 19 من العمر. اما مشوار حياته فيرويه طوني، بصوت خافت ونظرات ثاقبة استرجع فيها ذكريات أليمة عانى فيها من قسوة القدر ونظرة المجتمع وحال صحية تدهورت بفعل الجلوس سنوات على كرسي متحرك، على رغم بضعة نوافذ أمل ساعدته على الابتسام أياماً، ولكنها لم تنسه سواد الليالي الأليمة والطويلة التي أمضاها على مدى 20 عاما. اليوم طوني في الأربعين من عمره، يروي لـ"الجمهورية" كيف نُقل يوم أُصيب الى غرفة العناية الفائقة في مستشفى "اوتيل ديو" ليبقى هناك نحو 4 اشهر. ولم يكن ينفع التحقيق آنذاك، على حد قوله، "لأن الخطوط كانت خطوط تماس والجهات التي اطلقت النار كانت معروفة في حينها". لذلك لم يفضِ التحقيق الى تحديد الجاني، إذ اعتُبرت إصابتُه إصابة حرب. حاول الأطباء والأهل اخفاء الامر عليه في بادئ الامر بطلب من الطبيب المعالج. لكنه علم وبعد ثلاثة اشهر انه لن يتمكن من السير مجدداً، إثر وقوع تقرير طبيب العائلة في يده وقد تركه في غرفته من غير أن يتنبّه لهذا الأمر، هنا أصيب انطوان بالخيبة والإحباط، خصوصاً حين نقل الى "بيت شباب" لاجراء التمارين الفيزيولوجية بحجة المساعدة. لكنّ التقرير النهائي جزم بأن إصابته في الفقرتين السادسة والسابعة من عموده الفقري أبعدتا الامل في قدرته على المشي مجددا. ويقول طوني بابتسامة حزينة وخاصة: "أعطوني أملاً مش موجود". ويضيف: "وصلت الى بيت شباب، فوجدت المعطوب والمعاق عقلياً، والذي لا يستطيع الحراك إطلاقا ينظر اليّ من دون أن ينبث ببنت شفة، وآخر لا يستطيع تناول طعامه بمفرده. فقلت في نفسي "منيح كتّر خير الله أنا بعدني احسن منهم". وبعد شهرين من المعالجة، بدأت أتأقلم في حياتي الجديدة تدريجاً إلاّ انّ العقور التي اُصبت بها نتيجة الجلوس الطويل والقروح التي كانت تلتهب وتتفاعل أدخلتني المستشفى مرات عدة للمعالجة. وكنت أصاب أيضاً بالتهابات في البول نتيجة كسل في كليتيّ بسبب عدم الحراك، وفي امعائي نتيجة تلك المضاعفات، فدخلت غرفة العناية الفائقة وكدت افقد حياتي لولا تدخّل القدر مجدداً وكأنه يقول لي "مهلاً إنّنا نخبئ لك المزيد". ◄مساندة العائلة والأصدقاء ويروي طوني كيف ساعده أقرباؤه "خصوصاً اهلي ورفاقي في بيت شباب على قبول مشيئة الله والقدر والتأقلم معهما. وقد تعافيت نفسيا ورضخت وتأقلمت مع واقعي الجديد، وقد ساعدني أخي الاصغر جان في إعادة الإبتسامة الى وجهي حين كان يَحضُر مع رفاقه ليسامروني ونشرب "كأس عرق" ونحضِّر المشاوي نهاية كل اسبوع في ضيعتي حردين، وأحياناً في منزلنا في البترون. وكنت انتظر نهاية كل اسبوع بفارغ الصبر إستعداداً لحفلة الشواء مع أصحابي الذين كانوا يقصدونني دائما في بيت شباب لدى عودتي مجدداً الى منزلي للاستقرار فيه، ومع رفاق أخي جان الذي اعاد الابتسامة الى المنزل لشدة ظرفه وتحلّيه بروح النكتة بشهادة من جميع الأقرباء وكل من جالسه". ويتابع طوني: "غير ان اخوتي ووالدتي لم يستوعبوا حالتي الجديدة حتى بعد مرور السنوات، لكنني أصرّيت على افهامهم أنني ارفض الشفقة التي اراها على الوجوه، ولطالما ردّدت أنني لن اسمح لأي كان بعد الآن بقول كلمة "حرام". ولكنّ القدر كان يترصد لعائلتنا، اذ فوجئنا بموت صهري، زوج اختي الكبرى، وهو في مقتبل العمر تاركاً وراءه عائلة صغيرة وأبناء في ربيع الطفولة. وقد شكل هذا الصهر السند المعنوي الأكبر لاختي ولجميع افراد عائلتي بعد موت والدي وبعد اصابتي، ليزيد حزني و"يهدّ حيلي"، لكن القدر كان لي في المرصاد، كأنه يقول "أرني قدرة تحملك!" ◄الإستشهاد المُر ويتابع طوني وقد اغرورقت عيناه بالدموع: "اللحظة القاتلة في حياتي كانت عندما اتخذ أخي الصغير جان قراراً بالالتحاق في صفوف الجيش اللبناني وفي فوج المدفعية الثاني تحديدا. فلم تنفع توسلات والدتي التي لم تلملم جراحها بعد، ولم تثنه نظراتي وأنا اتأمل كرسيَّ المتحرك، فقلت له "تروّى يا اخي الم يكفنا ما حصل لي؟ الا ان حماسة جان وحبه للوطن كانا اكبر، فلم يصغِ لنداء والدته ولم يفهم الرسالة التي حاول اخوه الشهيد الحي ايصالها له. وكان اصحابه قد التحقوا قبله وحمّسوه على اللحاق بهم، فالتحق بفوج المدفعية الثاني عن إقتناع وهو في سن الثامنة عشرة". ويروي طوني أن جان تعرّف إلى فتاة وخطبها، فنصحه باستدانة قرض من مصرف الاسكان ليشتري بيتا في المستقبل بعدما مضى على خدمته العسكرية 16 عاماً، واصبح معاشه يخوله استدانة القرض. فكان له ما أراد واستحصل على قرض سكني، فاشترينا شقة في مستيتا (جبيل) قبل سنتين من نهاية خدمته في مؤسسة الجيش بغية الاستقرار فيها بعد زواجه". هنا، يصمت طوني طويلاً محاولا اخفاء غصة: "إلاّ انّ القدر كان للعائلة بالمرصاد مجدداً، لقد بدأت حرب نهر البارد وكنت حينها أُعالَج في بيت شباب نتيجة عقور كبيرة المّت بي. فزارني جان قبل يومين للاطمئنان الى صحتي محاولا اخفاء نيته في الذهاب الى مخيم نهر البارد وذلك من خلال التلهي بسرد النكات، لكنّ قلبي أنبأني بنيته في الذهاب الى هناك. فقلت له حرفياً: "اياك والذهاب اذا لم تتلقَّ امراً مباشراً"، فضحك وطمأنني... لكن الفاجعة وقعت وأصابت قلبي وقلب امي واخوتي، استشهد اخي جان ضابط المدفعية البطل وهو يقود الدبابة في ارض المعركة وهو في سن الثلاثين، وكم كنت أريد معاقبته وأنا اعالَج في فراشي بعدما علمت أنه ذهب من تلقاء نفسه، فكان هول الفاجعة اكبر من ان يوصف على العائلة وعلى ضيعتي واقربائنا في الوطن والمهجر. وأقيمت لأخي احتفالات في كل ارجاء الوطن وعززت شهادته مؤسسة الجيش فوهبته أوسمة الشرف من رتبة ضابط وكان له عرس الاعراس لكن ليس العرس الذي حلم به". يتوقف طوني عن سرد حكاية البطولة وتغص فتاة أوسترالية من اصل لبناني جالسة بقربه وتدمع عيناها وهي تمسك بيديه مع انها لم تفهم اي كلمة من الحكاية ولكنها فهمتها في قلبها ومن خلال نظرات طوني التي من أجلها تركت استراليا "بأمها وأبيها" إذا جاز التعبير. ترتسم على محيا طوني هذه المرة اشراقة امل فيقول: "اتريدين ان تعرفي ما خبأته لي الحياة وفاجأني به القدر بعد استشهاد أخي البطل وكيف عادت الضحكة الى منزلنا المتصدع من ثقل الاحزان؟ وهنا تتولَى كاترين الفتاة الجالسة بقربه الكلام، فتروي بلهجتها العربية الثقيلة حكايتها مع ابن عمتها طوني لتستعين غالباً بعبارات انكليزية خوفاً من ان تخذلها لغتها العربية فلا تتمكن من التعبير عن صدق مشاعرها، فتقول: "اردت المجيء الى لبنان عام 2007 للتعرّف الى اقربائي في لبنان وقد علمت ان لي قريباً أصيب في الحرب اللبنانية لكنني لم اقابله يوماً، حتى انني لم اشاهد صورة له قبلاً مع الأقارب في اوستراليا. لكنني فوجئت في العام نفسه بنبأ استشهاد اخيه جان، وعلمت أنه الابن الاصغر في عائلة عمتي، فعدلت عن فكرة السفر الى لبنان وارجأتها الى العام المقبل، لم يكن في نيتي ملاقاة عمتي والتعرّف الى ابنائها في مثل تلك الظروف الاليمة". كاترين سعود ولدت في استراليا من والدين لبنانيين لكنها لم تتعرف الى لبنان بسبب الاحداث التي توالت عليه. وبعد عام على استشهاد ابن عمتها جان الياس، وصلت الى بلدة برسا الكورانية تروي: "أقمت في منزل خالي وبعد اسبوعين طلبت منه مرافقتي الى منزل عمتي في قرية حردين (جبال البترون) للتعرف اليها والى العائلة. حين وصلت ووقعت عيناي على طوني الذي كان مقعداً على كرسيه وابتسامته لا تفارق ثغره، احسست بشيء ما لا ادري ما هو ولكن في اعماقي شعرت انني ارتاح الى هذا الانسان، وان في داخله شيئاً ينقصني". من جهته يقول طوني إنه فرحٌ بملاقاة احد افراد اسرته الذي لم يتعرف عليه قبلاً، وقد تهكم كثيراً على طريقتها في التعبير وهي تحاول التكلم بالعربية، وكانا يضحكان معا وهما يرويان لي كم كانا فرحين في تلك الايام. يصف طوني مشاعره قائلا: "لم اكن احلم بعلاقة عاطفية ولم اجرؤ على التفكير في الزواج اساساً لعلمي أن من في حالة كحالتي يستحيل عليه تأسيس عائلة. كما ان صحتي التي كانت تتدهور بصورة متواصلة منعتني من التفكير في الامر. فاكتفيت بعائلتي الكبيرة، اي امي واخوتي ورفاقي وذكرياتي الجميلة مع أخي البطل". لكن "كاتي"دغدغت مشاعر كانت نائمة في جسد طوني الياس وقد دفنها منذ 20 عاما، فعرف أن القلب والعين يعشقان ايضاً وليس الجسد وحده. وتروي كاتي كيف عرّفها طوني على لبنان بعدما تعلّم القيادة خلال السنين الماضية واشترى سيارة مجهزة لحالته، ومن اجمل لحظات حياتها كانت تلك التي اأمضتها معه في التعرف على جمال لبنان وآثاره وطبيعته وسهراته. حاولت "كاتي" التهرب من مشاعرها كما تقول، فعندما عادت الى اوستراليا اقنعت نفسها بانها استرالية وستتزوج استرالياً. الاّ ان اهلها لاحظوا ان ابنتهم تركت شيئاً ما منها في لبنان لم يدركوا ما هو، الاّ انها وحدها علمت بانه تركت قلبها هناك. وتُخبر "كاتي" ضاحكة ان فاتورة هاتفها بلغت 1000 دولار، ليضحك طوني بدوره لافتاً إلى ان فاتورة منزله فضحت علاقتهما بعدما بلغت 600 ألف ليرة لبنانية. ◄القرار الصعب وقررت كاتي العودة الى لبنان عام 2010 والارتباط الرسمي بطوني واستكشاف امكان بقائها في لبنان برفقته. اما قرارها بالزواج منه، فقد لاقى اعتراضات كثيرة لدى العائلتين، والاسباب معلومة من دون شرح. فطوني الياس الشهيد الحي مصاب بشلل كامل وهو غير قادر على ممارسة حياته الزوجية وغير قادر على الانجاب، فهل يثبت الطب عكس ذلك؟ وهل يتلاعب القدر مرة أُخرى بمصير عائلة جرجس الياس ومستقبلها؟! زواج كاترين وطوني كان مثل قصص الف ليلة وليلة، لكنه حقيقة شارك فيها اشقاء طوني وابناء قريته ورفاقه في بيت شباب وحملوه على الاكتاف وهو على كرسيه محاولين مراقصته لتمتزج دموع الفرح بضحكات رنانة يستحيل تصديقها، ولكنها شاهدة على قيامة الحياة أخيراً في قلوب افراد هذه العائلة المناضلة. ◄الشهيد الحي الى منزل اخيه الشهيد الحدث المبكي والمفرح في آن، أن طوني العريس انتقل الى العيش في منزل اخيه الشهيد جان في مستيتا، بعدما تكفلت مؤسسة الجيش اللبناني متابعة دفع نفقاته الشهرية حتى تسديد القرض كاملاً للبنك المكلّف، وذلك على رغم الصعوبة التي واجهها في بادئ الأمر. ◄بريق الأمل في مسيرة عائلة الياس اثبت الله دائماً بأنه على كل شيء قدير، وذلك بعد محاولة طوني وكاترين الانجاب على رغم تأكيد الطب والعائلة والمجتمع بأن شلله النصفي منذ 20 عاما سيؤدي حتماً الى عجزه الجنسي الكامل. قصد طوني وكاترين الطبيب ر. س. في منطقة جبيل وبعد فحوص مخبرية ظهر بصيص امل. "الجمهورية" إلتقت الطبيب المعالج، فأوضح ان اصابة طوني في الدودة الشوكية في سلسلة الظهر نتج عنها قصور جنسي، أي "لا حياة جنسية لديه وليس لديه بذرة في البويضة". وقد حاول هذا الطبيب بمساعدة زميله الطبيب ش. ب إجراء عملية لطوني عن طريق شق البويضة وسحب بذرة منها ولحسن الحظ وبعد هذه السنين الطويلة، يقول الطبيب المعالج، "وجدنا بذرة ما زالت تعيش داخل البويضة. فتم تجهيز طوني بواسطة عقارات مقوية ومعالجته، وكذلك فعلنا مع زوجته كاترين، وذلك عن طريق تلقيها بعض العقارات الهرمونية لتحافظ على كل البذور الحيّة المتبقية. وقد تم تلقيح بويضاتها بالبذرة الخاصة بزوجها ولحسن الحظ حصلنا على "أجنّة" فنقلناها الى داخل بيت الرحم بعد دعمها بأدوية لتثبيت الحمل ومضادات حيوية وغيرها من الأدوية اللازمة. وقد تم الحمل بنحو جيّد بعد طول انتظار". ويضيف الطبيب: "لسوء الحظ اجهضت كاترين بعد شهر من حملها بسبب كيس دم بجانب المبيض، فلم نتمكن من علاجه بالأدوية اللازمة مخافة من التداعيات". ◄أمل في محاولة جديدة لم يخف الطبيب ان الماديات تلعب دورها، وطوني جنديّ في الجيش اللبناني "عانى كثيرا في المستشفى العسكري لتخليص الاوراق المطلوبة منه. وهو الآن في انتظار تحصيل ما يستحقه من قيمة الأدوية الباهظة الثمن". وفي هذا الإطار أشاد كما الطبيب بقائد الجيش الذي سمح للمرأة بمحاولات أربع جديدة لطفل أنبوب وذلك حتى سن الـ42، مؤكداً أنه سيقف إلى جانب طوني وزوجته وسيحضّهما على المحاولة مجدداً بعد ان تتيسر اوضاعه. أما الزوجان طوني وكاترين، فهما متحمسَان بدورهما للمحاولة مرة أخرى، خصوصاً بعد القرارات الجديدة التي اتخذها الجيش لتأمين الادوية المماثلة لجميع العسكريين من غير ان يتكبد الجند ي بدفعها ليحصّلها لاحقاً. وفي هذا السياق وجه طوني نداءً عبر "الجمهورية" الى قيادة الجيش، مطالباً بالسماح له بالدخول في سيارته الى ثكنات الجيش برفقة والدته في اعتبارها والدة الشهيد، موضحاً ان زوجته لا تقرأ العربية لتنجز الاوراق اللازمة للعملية التي ينوي اجراءها لوالدته المريضة، وللفحوص التي ينوي هو اجراءها. الشهيد الحي طوني الياس صارع الموت والقدر في مسيرة حياته البطولية، فهل يثبت القدر أنه غيّر مساره مع هذه العائلة؟ وهل تبث الحياة روحها منزله وتحيي روح أخيه الشهيد جان فيبتسم من عليائه الى ابن أخيه جان طوني الياس!؟. الجمهوريّة - مرلين وهبه

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية