الاثنين، نوفمبر 05، 2012

السُنّة في لبنان: حكاية غضب!

تفاجأ كثيرون، حتى من اللبنانيين، حين أورد إتفاق الطائف (عام 1989) أن لبنان وطنٌ نهائيٌ لجميع أبنائه. إتفاقُ اللبنانيين على "نهائية" الكيان، جاء بناءً على رغبة ملحّة للمسيحيين، ذلك أن المسلمين عامة، والسُنّة منهم خاصة، لطالما إعتبروا لبنان كياناً مؤقتاً مصطنعاً لا يُلامس طموحاتهم التي كانت تتطلع دائماً إلى ما وراء الحدود. في إنشاء لبنان الكبير، تم ضمُّ أقضيةٍ مسلمة إلى الجبل المسيحي من ضمن ترتيبات سايكس - بيكو لإعادة توضيب البيت العثماني. لم يكن السُنّة في لبنان متمسكين بالحكم العثماني (كإستمرارٍ لنظام الخلافة)، بل كانوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من حراك أكبر، غير معنيين بحشرهم في كيانٍ هجين لا يُشبههم. كان السُنّة في لبنان يتطلعون إلى ولادة كيان عربي مستقل روّجت له حركة الشريف حسين ومن ثم إبنه فيصل، لإقامة مملكة عربية في المشرق العربي بعد أفول العهد العثماني. ثم أن السُنّة في لبنان وجدوا أنفسهم أقلية داخل هذا الكيان الجديد، بينما هم جزءٌ من أغلبية تسود المنطقة من المحيط إلى الخليج، وحتى ما وراء ذلك. بيد أن تسوية ما بين اللبننة والعروبة صاغها رياض الصلح (أول رئيس لوزراء لبنان بعد الإستقلال)، أقنعت السُنّة بالقبول بقدرهم الجديد. وضعُ السُنّة الأقليّ في بدايات لبنان المستقل، إضافة إلى تراجعِ دورهم في السلطة، جعل أنظارُهم مصوبةً الى ما وراء الحدود، متابعين بشغفٍ حراك المنطقة العروبي – الاسلامي. ومثلت الحقبة الناصرية مفترقا لافتا في إعادة الإعتبار لدور السُنّة في لبنان، لاسيما من خلال تحالفهم مع خيارات عبدالناصر في معارضته لحلف بغداد الذي كانت تمثله في لبنان خيارات كميل شمعون، رئيس الجمهورية. الأمر أدى إلى صدام مسلح عام 1958 (شهد إنزالاً أميركياً على الشواطئ اللبنانية)، ولم ينته إلا بتسوية إقليمية دولية كان عرابُها الزعيم المصري نفسه. خيارات السُنّة إصطدمت مرة اخرى بخيارات المارونية السياسية بعد هزيمة 1967 وإنطلاق المقاومة الفلسطينية وإنتقال العمل الفلسطيني إلى لبنان بعد أحداث أيلول 1970 في الأردن. السُنّة في مشاعرهم العروبية اختاروا دعم الحراك الفلسطيني على حساب السيادة والاستقلال اللبنانيين. فالمنطق العروبي عند السُنّة آنذاك كان سابقاً على أي منطقٍ لبناني قومي، متسقين في ذلك مع المنطق السائد في المنطقة بالطبعات الناصرية والبعثية والقومية العروبية التابعة. الصدام أدى إلى نشوب الحرب الأهلية الشهيرة (1975-1990). بيد أن السُنّة لم يشاركوا بتلك الحرب بصفتهم الطائفية، بل وفّروا من خلال فضائهم السياسي الثقافي أرضية خصبة لصعود فصائل وتنظيمات يسارية قومية فلسطينية قادت العمل السياسي والعسكري ضد المارونية السياسية تحت أنظار القيادات السنية التي همّشتها تلك الحرب وأنهت وجودَها السياسي تماماً. أفاق اللبنانيون على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. قيل لهم أن اتفاقاً أُبرم في مدينة الطائف السعودية أعاد شيئا من التوازن في توزيع السلطات. فكان أن وضعت الحرب أوزارها. السُنّة في لبنان كانوا يعلمون أن أجندة تلك الحرب لا علاقة لها بحالة اللاتوازن في الحكم، بل أن محركاتها كانت تتجاوزُ حدود البلد، ولا شأن لها بحالة الغبن التي كان السُنّة يعانون منها. لم يُعِد الطائف الإعتبار المتوخى للسُنّة في لبنان. دفع السُنّة ثمن موافقهم المؤيدة لخيارات ياسر عرفات (والمتناقضة مع خيارات دمشق). إصطدم السُنّة بشكل مُضمر، وأحيانا مُعلن، مع الوصاية السورية المطلّة على لبنان من خلال النافذة العربية ومنبر "الطائف". سحقت الوصاية السورية زعماء السُنّة التقليديين إغتيالا أو تهجيراً داخليا او نفياً نهائيا. تعايش السُنّة مع واقع الطائف من خلال قيادات تعلمت التعامل مع "القدر السوري" منذ إغتيال مفتي السُنّة الشيخ حسن خالد، ومنذ إسقاط اقوى زعماء بيروت صائب سلام في السياسة، حتى إخراجه إلى منفاه في سويسرا حيث توفي. في مقابل ذلك سمح العصر السوري الجديد بصعود الشيعية السياسية التي باشرها بخجل السيّد موسى الصدر (قبل اختفائه في ليبيا) ودفعتها الى درجات متقدمة زعامة نبيه بري لحركة أمل، وذهب بها،لاحقاً، حزب الله إلى المديات القصوى. فقدَ السُنّة زمام المبادرة، وأضحوا متعايشين لا مبادرين، وعاد إليهم الشعور بالغبن الاستقلالي حتى ظهور رفيق الحريري. كانت طموحات الرجل تتجاوز الطائفة السنية. تحركَ بديناميكية لافتة، مستندا على ثروة مالية ضخمة وعلى دعم سعودي سياسي واضح وعلى علاقات دولية من شرق العالم إلى غربه. بيد أن بارونات الطوائف في لبنان سرعان ما ضربوا على أصابع الحريري، فيما تولى الراعي السوري في دمشق تحجيم طموحات الرجل، فراح يبرع في بناء زعامة داخل الطائفة السُنّية لم تتوفر لأي زعيم سُنّي سابق في لبنان. نجحَ رفيق الحريري في مصالحة السُنّة مع لبنان. تحوّل السُنّة إلى دعاة للبنان المستقل، بعد أن كان الأمرُ حكراً على المسيحيين. تجرأوا من خلال الزعامة الحريرية على رفع شعار "لبنان أولاً"، بعد أن كان نفس الشعار محرماً ومشبوهاً قبل سنوات. إقتنع السُنّة بلبنانهم وراحوا يفاخرون برفع علم بلادهم، بعد أن إرتفعت دونه أعلام وبيارق أخرى قبل ذلك. وكم فاجأهم، في هذا السياق، مغادرة بعض المسيحيين (كما تعبّر العونية) لهذه المسلّمات من أجل خيارات سورية إيرانية وافدة. في السياق التاريخي للسُنّة في لبنان توزعت الولاءات على قيادات متعددة وفق قواعد المدن والمناطق والنواحي والعائلات. وتوزعت الولاءات العربية بحنكة، وفي الوقت عينه، بين السعودية بخياراتها الإسلامية ومصر الناصرية بخياراتها الإشتراكية العروبية. تنافست القيادات السُنّية تقليدياً على موقع الرئاسة الثالثة (رئاسة الوزراء) بين آل سلام والصلح وكرامي واليافي وغيرهم. ومثّل رفيق الحريري (ومن بعده نجله سعد) سابقة أن يكون الزعيم الأوحد لكل السُنّة في لبنان (بإستثناء إختراقات داخل الطائفة تحالفت مع دمشق وطهران). وهو أمرٌ اثار قلقاً لدى أطراف داخلية عامةً، لكن لدى دمشق خاصةً. يشعر السُنّة في لبنان أن سوريا حرمتهم من زعيمهم من خلال إغتياله عام 2005. ويشعر السُنّة في لبنان أن إضعافهم في لبنان هدفُه أساساُ إضعافُ السُنّة في سوريا. ويشعر السُنّةُ في لبنان أن سوريا تستخدمُ حلفائها الشيعة من خلال ثنائي حزب الله-أمل من أجل منعهم من لعب دور يليق بوزنهم التاريخي. يشعر السُنّة في لبنان بأن إبعاد زعيمهم سعد الحريري من خلال "إنقلاب القمصان السود" يشكّل مهانة وكيدية وإقصاء لن يقبلوه. لا شك أن أحادية الزعامة لدى السُنّة مردها إلى عصبية جديدة لم تعرفها الطائفة من قبل. وحدهُ جمال عبدالناصر كان الزعيم الذي يشدّ عصب سُنّة بيروت بسُنّة الاطراف تحت عناوين عروبية وطنية. في ما عدا ذلك، لم يلتق السُنّة حول تيار أو شخص يقودهم. عصبية السُنّة المرتجلة وُّلِدت من شعورٍ عام بالغبن والتهميش مارسته الوصاية السورية عليهم، ثم زادت العصبية صلابة إثر إغتيال الرئيس رفيق الحريري وبروز تحالف 8 آذار الخصم بعد أسابيع على عملية الإغتيال، وما تلى ذلك من توترات، قادت إلى صدام 7 ايار الشهير، وحديث السيّد حسن نصرالله عن "اليوم المجيد". إثر إغتيال اللواء وسام الحسن، خرج رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي بتصريحه الشهير: "طائفتي عندها شعور إنها مستهدفة". وما أفاد به ميقاتي يعكس حالة الغضب التي تجتاح السّنة وتنمي لديهم مشاعر إحباط مقلقة. وما ذكره ميقاتي يُذكّر بما حذّر منه قبل أشهر العاهل السعودي، على نحو لافت، (في رسالة للرئيس اللبناني إثر مقتل الشيخين في شمال لبنان)، من "إستهداف لأحد الطوائف الرئيسية التي يتكون منها النسيج الإجتماعي اللبناني". النيويورك تايمز تحدثت عن فراغ يواجهه السُنّة بسبب غياب الرئيس سعد الحريري. تعبيرات السُنّة تجاوزت زعامة سعد الحريري وتيار المستقبل، لتتجسد في رواج ظاهرة التنظيمات الإسلامية والسلفية التي تجاهر بالعداء للنظام السوري ولحزب الله وحلفائه (راقب حركة الشيخ أحمد الأسير مثلاً). هذه التعبيرات قد تشدُّ السُنّة إلى خيارات تُبعدهم عن البراغماتية الحريرية، كما تُبعدهم عن طبيعتهم الوسطية في لبنان المتعدد. لكن هذه التعبيرات أيضاً، هي التي قد تُخرِج الحريرية من عقلانيتها وتدفعها نحو خيارات إنفعالية طارئة. محمد قواص

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية