الاثنين، مايو 21، 2018

قصة مريَمين

هذه قصّة حقيقية بدأت عندما كانت فلسطين كياناً خاضعاً للانتداب البريطاني، وتتشاطر حدوداً ليّنة مع لبنان وسوريا وشرق الأردن ومصر. كانت الحياة بسيطة آنذاك، وكانت القرارات تكتسب طابعاً قصير الأمد، مع أنها كانت تحمل تداعيات تستمرّ مدى الحياة. فمعظم الروايات التي تتناقلها الأجيال تتحدّث عن خطط أساسية تمتدّ لأسابيع أو أشهر، وليس لسنوات أو عقود، فما بالكم بحياة كاملة أو وصولاً إلى المتحدّرين. لم يكن أحد في ذلك الماضي البعيد ليتخيّل، حتى في أغرب أحلامه، ما تخبّئه الحياة من تقلّبات وانعطافات.
  
 وقعت شابّة تدعى مريم من قرية رميش في جنوب لبنان في غرام شاب صالح ومجتهد في العمل من قرية كفر برعم المجاورة في شمال فلسطين. تزوّجا، وأنجبا توأمين عام 1946. وقد وضعتهما الحياة أمام التحدّي الأول عام 1948، بعد إعلان دولة إسرائيل رسمياً واقفال كل الحدود. كانت مريم تزور مع التوأمين عائلتها في لبنان، وواجهت خطر الانفصال عن زوجها "لفترة الله أعلم كم ستدوم". لذلك ركب حموها حماراً، وعبَر البراري في اتّجاه لبنان لاصطحاب مريم والطفلَين والعودة بهما إلى فلسطين. وقد طلبت والدة مريم التي تملّكها القلق من إرسال ابنتها وحيدة إلى المجهول، من ابنتها العزباء
 نظيرة مرافقة شقيقتها لمساعدتها والبقاء معها في انتظار أن يجتمع شمل العائلة الأوسع من جديد.
  
 هكذا، في لحظة، دخلت امرأتان لبنانيتان إسرائيل، ولم تريا عائلتهما من جديد أو تطأ أقدامهما أرض لبنان ثانيةً. علاوةً على ذلك، دُمِّرت كفر برعم دماراً كاملاً على يد الجيش الإسرائيلي الذي طرد منها جميع سكّانها المسيحيين. لا يزال أبناء كفربرعم يناضلون بعد أربعة أجيال، من أجل حقّهم في العودة إلى قريتهم وإعادة بنائها. ولا تزال إسرائيل الآمرة الناهية من خلال منحها الأذون لتشييع الموتى أو زيارة معالم القرية. الكنيسة هي المعلم الوحيد المتبقّي، إذ تقف شاهدةً على حياة كانت موجودة قبل وقت طويل، وقد لا تعود أبداً شأنها في ذلك شأن الأشخاص الذين عاشوها.
  
 تستمرّ الحكاية، وتصبح مريم ونظيرة مواطنتَين إسرائيليين تماماً مثل زوجَيهما الفلسطينيَّين اللذين اختارا البقاء في وطنهما الأم. كبرت عائلتا مريم ونظيرة، وأصبحتا جزءاً من حياة جديدة لم يخطر قط في بالهما أنهما ستعيشانها، أو لم تتخيّلاها أو ترغبا فيها أو تريداها. لكنهما تقبّلتا الوضع الجديد. فقد أصبحتا من عرب إسرائيل، إلا أنهما لم تنسيا أو تسمحا لأحد بأن ينسى من أين جاءتا وما هو البلد الذي تحملانه في قلبيهما. وبما أن مريم وشقيقتها باتتا تحملان الجنسية الإسرائيلية، لم تتمكّنا قط من العودة إلى لبنان لزيارة عائلتهما. ذات مرة لوّحتا بأيديهما وتواصلتا مع عائلتهما في لبنان بواسطة مكبّرات للصوت عبر الحدود الأردنية عقب حرب الايام الستّة. لكن التجربة لم تتكرّر لأنها كانت قاسية ومؤلمة جداً وتركت أثراً عميقاً في النفوس.
  
 هكذا عاشت مريم ونظيرة من أجل أولادهما ومن خلالهم، يوماً تلو الآخر، وسنة تلو الأخرى؛ عاشتا حياة كاملة بعيداً من المنزل والأسرة. هل هما فلسطينيتان؟ كلا. عربيتان؟ كلا. إسرائيليتان؟ كلا. إنهما شقيقتان لبنانيتان من رميش، اقتُلِعتا من جذورهما وقُذِفتا في أعاصير الحياة، لكنهما صمدتا وأوجدتا جذوراً جديدة وأسّستا عائلتَين قويّتَين. قبِلتا بمصيرهما، إلا أنهما حاولتا توجيهه بأفضل الطرق. لبنانيتان فخورتان كانتا تواكبان الأخبار الآتية من الوطن الأم عبر وسائل الإعلام، لكنهما ظلّتا متعطّشتَين دائماً وأبداً الى الأخبار عن أحبابهما. وكانتا تتوقان دوماً الى اليوم الذي ستتمكّنان فيه من العودة إلى لبنان، ولو للزيارة. توفّي والداهما وكبر أشقّاؤهما وشقيقاتهما، لكن حلمهما برؤية لبنان من جديد لم يتحقّق قط.
 توفّيت مريم عام 1996، ثم نظيرة بعد بضع سنوات. لم تُروَ قصّة حياتهما بعد، كما أن الناس غافلون عنها، لكنها محفورة في أذهان محبّيهما وأقاربهما وجيرانهما وأصدقائهما وأولادهما وأحفادهما الذين تأثّروا بمحبّتهما وتفانيهما الكبيريَن على جانبي الحدود.
  
 قد تكون حكاية مريم عبرةً لجميع اللبنانيين، ولا سيما منهم أولئك الذين يعتبرون بلدهم من المسلّمات ويعتقدون أنه سيبقى موجوداً دائماً من أجلهم. إنهم الأشخاص الذين انتقلت إليهم المواطنية بالإرث أو حصلوا عليها مكافأة من غير أن يقوموا بأي إنجاز على الإطلاق. فلتكن قصة مريم نداء صحوة لمن لا يعلمون ما هو معنى أن تُسرَق مواطنيتهم منهم، ومن لم يُحرَموا يوماً وطنهم الأم، ومن لم يتذوّقوا قط مرارة الخلود yGN النوم كل ليلة وهم يحلمون بعائلة على مرمى حجر لكنهم غير قادرين على الاجتماع بها من جديد. أما بالنسبة إلى الباقين، فيجب أن تكون هذه القصّة بمثابة تذكير بكل الرهانات التي تقف على المحك وبما هو مهم فعلاً، من خلال هذه التحيّة لسيّدة لبنانية عظيمة تدعى مريم!

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية