الحملة الأولى.. واغتصاب القدس
ما زلنا في صحبة كتاب "ماهية الحروب الصليبية" للدكتور قاسم عبد قاسم، وفي الحلقات الثلاثة السابقة، تناولنا بالترتيب الأيديولوجية الصليبية، والدوافع والأسباب، وخطبة البابا أربان الثاني والاستجابة الشعبية لها... واليوم نتناول حملة الفرسان الأولى:
*****
في خضم أحداث الحملة الشعبية الفاشلة؛ كانت البابوية والفرسان بصدد تجهيز حملة من نوع مختلف، وعلى أواخر صيف 1096م، وبعد أن حلوا مشكلة التمويل كانت جيوشهم متأهبة للرحيل صوب فلسطين، وتكونت خمسة جيوش على أساس من التقسيمات اللغوية والجنسية وعلى أساس من الروابط الإقطاعية.
فقد تولَّى جودفري البويوني قيادة الجيش الأول الذي جمعه من اللورين، شمال فرنسا، ومن الألمان، واشترك معه أخوه بلدوين.
أما الجيش الثاني؛ فقد تكوَّن من فرسان غرب فرنسا ونورماندي، وبعض مناطق الشمال، فضلاً عن الكثير من الفرسان الإنجليز، وتولَّى قيادته دوق نورماندي المدعو روبرت وستيفن كونت بلوا.
أما الجيش الثالث؛ فكان تحت قيادة ريمون الرابع كونت تولوز، وتألف من فرسان جنوب فرنسا والبروفنسال، وكان في صحبته أديمار أسقف لوبوي، والمندوب البابوي في هذه الحملة.
وكان الجيش الرابع، وهو أصغر الجيوش تحت قيادة هيو كونت فرماندوا المعروف باسم الأشغر وشقيق فيليب الأول ملك فرنسا.
والجيش الخامس والأخير، تألف من المقاتلين النورمان الأشداء في جنوب إيطاليا تحت قيادة بوهيموند النورماني.
توجهت الجيوش إلى القسطنطينية التي كان إمبراطورها متوجسًا من نوايا جيوش الغرب الأوروبي المدعوم من الكنيسة الكاثوليكية؛ فأصر على عدم السماح بدخول القوات الصليبية المدينة، والاكتفاء باستضافة القادة فقط، مع إصراره أن يقسموا له يمين الولاء، وحدثت بالفعل بعض المناوشات العسكرية بين قوات الطرفين؛ ولكنها انتهت بالتهدئة.
لتنتهي بذلك المرحلة الأولى من هذه الحملة، وتبدأ المرحلة الثانية بعبور الجيوش الصليبية مضيق البسفور إلى آسيا الصغرى؛ ليجدوا أنفسهم لأول مرة في أرض العدو.
اغتصاب نيقية:
في السادس من مايو 1097م وصلت جيوشهم لمدينة نيقية (مقرها الآن مدينة أسيك التركية) عاصمة دولة السلاجقة الروم التي يحكمها قلج أرسلان، وبعد حصار مشترك صليبي بيزنطي سقطت المدينة في 19 يونيو 1096م.
وهُزمت قوات قلج أرسلان في معركة فاصلة في بدايات شهر يوليو 1097م، وقد توقفت بعدها كل مقاومة إسلامية منظمة.
*****
اغتصاب الرها:
تلا ذلك سقوط إمارة الرها على يد بلدوين القائد الصليبي من اللورين؛ وهي الآن مدينة تركية تاريخية تقع بالجزيرة الفراتية شمال شرق سوريا.
ولقد أفاد الصليبيين كثيرًا التشرذمُ السياسيُّ للحكام العرب والسلاجقة في المنطقة العربية.
*****
اغتصاب أنطاكية:
في 21 أكتوبر 1097م فرض الصليبيون الحصار على أنطاكية، وبعد صمود دام 8 شهور سقطت المدينة بتآمر بعض الأرمن الذين فتحوا أحد الأبراج التي كانت تحت حراستهم.
وحاول جيش فارسي بقيادة كربوقا صاحب الموصل إنقاذ المدينة ولكنه فشل.
ولم تسقط المدينة فورًا بعد اختراقها، إلى أن اخترع ولفق أحد القساوسة حكاية عن رؤية مقدسة، أخبرته عن مكان الحربة التي طعن بها المسيح منذ أحد عشر قرنًا من الزمان، وربط بين العثور على هذه الحربة وبين النصر؛ وبطبيعة الحال تمَّ العثور على هذه الحربة بسهولة؛ ما أدَّى إلى رفع معنويات الفرنج، وتحقيق النصر على جيش كربوقا، ولم يكن هناك جيش إسلامي آخر يمكنه سد الطريق إلى القدس.
تسلَّم بوهيموند النورماني القلعة من قائدها أحمد بن مروان، وبعد سلسلة من الصراعات والدسائس بين القادة الصليبيين، نجحوا في تأسيس الإمارة الصليبية الثانية على أرض الشرق في مطلع سنة 1099م.
*****
اغتصاب القدس:
- وفي مصر كان الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي يراقب الموقف، فحاول مفاوضة الصليبيين على اقتسام بلاد الشام؛ ولكنه لم يلق استجابة، فقرر أن يستفيد من هزيمة السلاجقة، فأغار على فلسطين، ونجح في الاستيلاء على القدس عام 1099م.
- وفي شمال بلاد الشام كانت الأسر العربية الحاكمة ترقب انهيار السلاجقة في سرور، ولم يتدخل أحد لإنقاذ أنطاكية.
- وفي يناير 1099م واصل الصليبيون زحفهم إلى القدس، وكان الأمراء العرب المحليون غاية في الضعف والتشرذم؛ لدرجة أن معظمهم كانوا على استعداد لتقديم الهدايا والأموال، تحاشيًا لهجوم الصليبيين عليهم.
- اتخذ الصليبيون الطريق الساحلي من جنوب طرابلس، وتوغلوا في الأراضي الفاطمية، وفرضوا حصارًا على مدينة القدس لمدة خمسة أسابيع من 7 يونيو إلى 15 يوليو 1099م، وهو اليوم الذي سقطت فيه، وكان يوافق يوم جمعة.
- ولم ينج من سكانها سوى قائد الحامية الفاطمية افتخار الدولة، وعدد من رجاله، وأعقب ذلك مذبحة فظيعة، وأبيحت المدينة للسلب والنهب والقتل عدة أيام وفاض الدم، وظلت الجثث مطروحة في شوارع القدس عدة أيام.
- وفي هذا الجو الموحش الكئيب، اجتمع الصليبيون في كنيسة القيامة لأداء صلاة الشكر؛ وهكذا تمَّ زرع الكيان الصليبي في الشرق العربي.
- وبعد سلسلة من الصراعات والمناورات السياسية تمَّ اختيار جودفري البويوني حاكمًا لبيت المقدس، تحت لقب فضفاض هو حامي الضريح المقدس.
- وفي 12 أغسطس 1099م حاول الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش المصرية مهاجمة الصليبيين؛ ولكنه هُزم وعاد إلى مصر.
- وبذلك تمَّ تأمين الوجود الصليبي في بيت المقدس إلى حين.
- وبعد وفاة جودفري البويوني تمَّ استدعاء بلدوين من إمارته في الرها؛ ليتولى حكم بيت المقدس، وفي الخامس والعشرين من ديسمبر 1100م قامت مملكة بيت المقدس الصليبية.
- وكانت في ذلك الحين تتكون من مدينة القدس إلى جانب يافا واللد والرملة وبيت لحم والخليل.
- وكان لها ظهير ريفي من المسلمين الذين رفضوا التعاون مع الصليبيين.
- وفي أوروبا تُوفي البابا أربان الثاني صاحب الدعوة إلى هذه الحملة في 29 يوليو 1099م قبل أن تصله أنباء الاستيلاء على القدس، وخلفه راهب شاب اعتلى العرش البابوي في 14 أغسطس 1099م تحت اسم البابا باسكال الثاني، والذي بدأ عملية دعائية نشطة لمساعدة الصليبيين الذين نجحوا في إقامة مملكة وإمارتين في بلاد المسلمين.
- وبالفعل كانت أخبار النجاح الذي أحرزته الحملة الأولى قد شجعت عناصر أوروبية جديدة على القدوم إلى الشرق العربي؛ رغبة في الحصول على نصيب من المغانم التي شاعت أخبارها في الغرب الأوروبي مع العائدين من فلسطين.
*****
مزيد من الدعم الصليبي:
وفي عام 1101م تجمعت حملة جديدة في الغرب الأوروبي لمساعدة صليبيي الشرق
ومن لمبارديا تحركت الجموع إلى القسطنطينية في ذات الطريق الذي سارت فيه الحملة الأولى، وعند وصولهم بدأوا في إثارة المتاعب الصليبية المعتادة، فأسرع الإمبراطور البيزنطي بنقلهم إلى آسيا الصغرى، وهناك لحقت بهم الجيوش الألمانية والفرنسية.
ولكن تصدَّت لهم الجيوش الإسلامية بقيادة قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم، ورضوان أمير حلب والغازي أمير سيواس، وألحقوا بهم الهزيمة.
التوسع الصليبي:
- ومن ناحية أخرى، بدأ الصليبيون يمدون نفوذهم بين الأراضي والموانئ التي كانت تفصل بين النقاط المتناثرة التي استولوا عليها.
- فاستولوا عام 1101م على سروج وحيفا وأرسوف وقيسارية.
- واستولوا عام 1103م على اللاذقية من البيزنطيين.
- وعلى عكا عام 1104م.
- ثم على طرابلس عام 1109م بعد حصار دام سبع سنوات؛ لتكون هي الإمارة الصليبية الثالثة بعد الرها وأنطاكية.
- وبذلك تمكَّن الصليبيون من فرض سيطرتهم على كل الساحل؛ فيما عدا صور وعسقلان التي لم تسقط إلا عام 1153م.
- وهكذا أسفرت الحملة الصليبية الأولى عن قيام مملكة في القدس وثلاث إمارات صليبية في الرها وأنطاكية وطرابلس.
----------
* Seif_eldawla@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق