الأحد، يوليو 08، 2018

مقاربات بين الشعبي والفصيح في زورق السحر الحلال

زورق العشق يبحر ولا يرسو على مينا
هي السحر إلاّ أن للسحر رُقيةً وأني لا ألقى لها الدهر راقيا


الحب الصادق فيه نوع من السحر الحلال، حيث تملك المعشوقة قلب العاشق وتملأ وجوده، وتبحر بخياله في زورق محموم محمول بأحلام اليقظة وأماني الوصال، مصدوم بالعقبات والبعد وصعوبة الوصول.
قلب العاشق نافورة من الأحلام والآمال ويظن أن الدنيا مثله كل حلمها في محبوته:

حلمت بك الدنيا وغنت
أنجم الليل المُطلة
أغمضت أجفاني عليك
أضم فيك العمر كُله
 
ويظن أن كل من رأى محبوبته أصابته الفتنة ووقع في الحب، فالحب يسير حيث تسير (مادام هو موجود فالحب موجود)! وخيال العشاق هو الذي يدفع زورق العشق المسحور إلى الإبحار في الخيال والأوهام، فيرى في عيون المحبوبة ورموشها.. في نظراتها وإغماضها.. مشيتها وضحكاتها.. قدُّها.. عطفاتها ولفتاتها.. كل ما فيها شعر .. سحر.. كل ما فيها (بانزين) يصعب على نار العاشق المسكين! والواقع أن (السحر) الذي يحس به كثير من المحبين، يصدر من خيالاتهم وأمنياتهم وتصوراتهم التي تزيد جمال المحبوبة.. وتجعلها فريدة بين النساء.. ووحيدة زمانها.. وبهذا يفتح العاشق قلبه لسحرها.. ويوطنه في صدره.. ويبحر معه في زورق من صنع خياله؟؟ زورق يبحر ولا يرسو على مينا.
ومع أن المرأة إذا أحبت أخلصت ووفت.. وأعطت كل شيء.. إلاّ أنها أعقل من الرجل في الحب والسبب أنها لا تقع في الحب الساحر قبل الزواج إذا أحسّت – وعن تجربة - أن رجلها يستحق الحب العميق بكماله من كل النواحي، فالمرأة كالأرض التي لا تستجيب للحب حتى يهطل المطر حقاً.. في الغالب.. أما الرجل فكثيراً ما يهيم مع سحابٍ خُلّب.. ومع جهام سحاب لا مطر فيه.
ويعبر كثير من الشعراء الشعبيين عن السحر الذي أصابهم من نظرات الحبيب، ومن جماله، بألفاظ تدل على الهيام، مثل (يا وجودي).. بمعنى (يا وجدي).. أو (تلّ قلبي).. بمعنى أخذ قلبي بعنف.. أو بالمُعنّى (قال المعنّى) وهو من أصابه العنا من شدة الحب!
أو يقول العاشق إن محبوبته رمته (صوّبته).. فكأنه أصابته سهامها فهام بها.. يقول عبدالله بن محمد دهيم:

يـاهـل الــدار دلـونـي تـرانـي غـديــت
أنتـم أهـل الحميـة وأنـتـم أهــل الـوفـا
كامـل الزيـن صوبـنـي وانــا مـادريـت
اشتكي من صوابـه ما احـد بـي درى
كـل ما جيـت ابامشـي بالقـدم ما قـويـت
حايـر فــي طريـقـي يــوم كــلّ ضــوى
ليـت خلـي يطاوعـنـي عـلـى ما بغـيـت
لا التقيـنـا مشيـنـا كــل ابـونـا ســـوى
يـــوم كــــل تـهـنــا نــايــم مـا سـريــت
لاأشـرب الـمـا ولا اكــل بـايـت الـقـوى
البـلاوي بلتنـي فـي الـهـوى وابتلـيـت
ومـن تولـع بـحـب البـيـض مـالـه دوا
مـن مــودة عشـيـري لاذكـرتـه بكـيـت
طول ليلي وانا اعوي مثل ذيب عـوى
سحرني حلالها وقلب هواها وابتلى (راكض وراها وأدور رضاها ياملا)!
وحين نقرن الحب بالسحر فإن كل ما سبق مجرد تشبيه لحال كثير من العشاق حين لا يرون في الوجود إلا معشوقاتهم! ولا يريدون غيرهن مهما كان!
 
والتشبيه للتوضيح لا للمقاربة والمماثلة، وهم أكثر من غيرهم رقّة ورّقة قلب ورأفة بالناس والحياة، ولكن قدرهم وتوقد خيالهم أوقعهم في (العشق اللاهب) وأحياناً (القاتل) فقد قتل العشق عدداً كبيراً من الرجال بعضهم معروف بالاسم وأكثرهم غير معروف ولم أقرأ أو أسمع أن العشق قتل امرأة واحدة!.. يقول الشاعر:

يا رب إن العيون السود قاتلتي
وإن عاشقها لا زال مقتولا
ولجرير – وهو مشهور -:
إنّ العُيُونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ
قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا
يَصرَعنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ بهِ
وهنَّ أضعفُ خلقْ اللهِ أركانا
ولمجنون ليلى:
وكنت كذباح العصافير دائبا
وعيناه من وجدٍ عليهن تهملُ
فلا تنظري ليلى الى العين وانظري
الى الكف ماذا بالعصافير تفعلُ؟!
ولمجنون بثينة:
فوالله ما أدري أزيدت ملاحة
وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل؟
وللفاروقي:
وَمَنْ كَانَ ذَا صَبْوَةٍ بِالْمِلاحْ
فَلا يَطْعَمُ النَّوْمَ إِلا قَلِيلْ
بِرِدْفٍ ثَقِيلٍ وَخِصْرٍ نَحِيلْ
وَخَدٍّ أَسِيلٍ وَطَرْفٍ كَحِيلْ
وَتِلْكَ الْقُدُودِ وَتِلْكَ الْعُيُونْ
فَكَمْ مِنْ جَرِيحٍ وَكَمْ مِنْ قَتِيلْ
ولمجنون ليلى:
هي السحر إلاّ أن للسحر رُقيةً
وأني لا ألقى لها الدهر راقيا
وقال آخر:
أنت القتيل بكل من أحببتهُ
فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي؟
قلت: وهل في الحب اختيار؟!
ولجميل:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما
قتيلاً بكى من حُبّ قاتله مثلي؟
وللآخر:
قلبي يحدثني بأنك مُتلفي
روحي فداك عرفت أم لم تعرفِ
ولابن المرزبان:
وما عجبٌ موت المحبين في الهوى
ولكنّ بقاءَ العاشقين عجيبُ!
ولشاعرنا الشعبي:
يا عيون تسحر بالزهاهير سود
نجلٍ تهاوى به سهوم المنايا
ولشاعر أيضا:
سحرني حلالها وقلب هواها وابتلى
(راكض وراها وأدور رضاها ياملا)!
ولشاعرنا المبدع ابن لعبون:
يا علي صحت بالصوت الرفيع
للمرة قبل تبيعين القناع
نشتري منك كان انك تبيع
بالعمر مير ما ظني تباع
شيبتني وأنا توّي رضيع
جاهل توّ في سن الرضاع


إنهم عشاق رقيقون لكنهم يحملون الهموم والأثقال، ويلومهم من لا يعرف الحب (ويل للشجي من الخلي).. يقول الشاعر المتميز عبدالرحمن البواردي:
عسى ربي يجيبك يا حمامة في محير السيل
تجين بحال خير ولا علينا حسبة أيامي
تطيرين وتروحين وتجين وتاقعين بليل
فالى جيتي رميتك يا حمامة والله الرامي
عسى من لامني في حبكم يرمى بدرب الخيل
ثمان أيام حيّ ما يذوق الما وهو ضامي
شلت من الهوى حملٍ ثقيل ما يشيله فيل
فالى منه عثر بي قالوا الحساد لا قامي

المصدر / جريدة الرياض



عبدالله الجعيثن

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية