الثلاثاء، يوليو 03، 2018

لبنان الكبير عصفور كان في اليد

تخطى لبنان مرحلة إعادة النظر في كيانه من دون أن يبلغ المرحلة الكيانية. فالكيان اللبناني صامد بسبب تعقيدات تقسيمه أو ضمه لا بفضل ولاء بنيه له. الوحدة اللبنانية واقع بديل عوض أن تكون حالة أصيلة. الشعوب تطالب بالوحدة حلا، أما في لبنان فالوحدة تسوية وشر لا بد منه. لكن، بين صعوبة التقسيم الدستوري ونقص الولاء الوطني جرى على مر الحروب والسنوات فرز عقاري/ثقافي داخلي خلافا لمفهوم لبنان الكبير والميثاق الوطني، فسقطت الدولة، ولن ينقذها رئيس ضعيف ولا رئيس قوي، إنما رئيس تاريخي، تلده العناية الإلهية. هذا هو عمق الأزمات الحكومية.
لدى نشوء دولة لبنان الكبير سنة 1920 برز مشروع مضاد عنوانه الدولة العربية الكبرى، ومع استقلال لبنان سنة 1943 أضيف إليه مشروع مضاد آخر شعاره إسقاط "المارونية السياسية" حامية الكيان اللبناني والدولة. عظيم، لكن، من يدلني على الدولة العربية الكبرى التي تحققت في هذا العالم العربي المنبطح بين المحيط والخليج؟ ومن يدلني على الدولة اللبنانية التي نبتت في أعقاب دولة "المارونية السياسية"؟ أدولة "الطائف" التي كلما ألفنا حكومة نعيد تأليف لبنان؟
خسرنا العصافير العشرة على الشجرة والعصفور الذي كان في اليد. راحت المارونية السياسية ولم تصمد العروبة السياسية ولا السنية السياسية، ومصير الشيعية السياسية لن يكون أفضل. هذه هي الحتمية التاريخية المتلازمة مع الحتمية الجغرافية.
لفتني، وقد يكون لفتكم، عدد الصور والفيديوهات التي يتبادلها اللبنانيون (من جميع الطوائف) عبر الـ"واتسآﭖ" ووسائل التواصل الإجتماعي عن لبنان ما قبل الحرب (1975)، عن رجالاته ونسائه وأدبائه وشعرائه ومؤسساته، عن ينابيعه وأنهاره وبحره وحفلاته وأغانيه، عن تقاليده وألفته ونمط حياته السابق، عن عاصمته وجبله وجنوبه وشماله وبقاعه. ظاهرة تعبر عن حنين اللبنانيين إلى الدولة التي أسقطناها بأيادينا وأصابعنا وأسناننا وبنادقنا، وإلى الوطن الذي شككنا فيه ولم نعرف قيمته، وإلى المجتمع الراقي والحضاري والمدني الذي أقمنا مكانه مجتمع التعصب والأصولية والهمجية والجهاد والسلاح. هذا الحنين المستجد نحو الماضي الجميل هو ثورة الوجدان على عجز الوعي، وتعبير عن ردة ضد الحاضر وعن خوف من مستقبل مجهول.
في مرحلة سابقة ظننت أن منا من يعيش في زمن الإمارة، ومنا من يعيش في زمن المتصرفية، ومنا من يعيش في زمن الانتداب، ومنا من يعيش في زمن الاحتلال، وقليلون يعيشون في زمن لبنان الكبير المستقل. لكن تبين أننا قفزنا فوق كل تلك المراحل التاريخية ورجعنا مباشرة إلى ما قبل إمارة الجبل، أي إلى الواقع القبلي والعشائري. والمؤسف، أن لا أحد يتواضع ويجري نقدا ذاتيا أو مراجعة أو مقارنة أو تقييما ليميز بين الخير والشر والجيد والسيئ، فنعود إلى المستقبل وإلى بعضنا البعض.
دولة لبنان مؤلفة من مجموعة كيانات بائدة في دولة فاشلة أو مفشلة (النتيجة واحدة)، ومن طبقات دستورية مكتومة القيد في دستور مكتوم التطبيق. كل منا يطبق زمانه الماضي في الزمن الحاضر، ثم نتساءل لماذا لم تقم الدولة الحقيقية بعد. أيبني دولة شعب مختلف على الوطن؟ فخلافا لما نعتقد، ليست التعددية في لبنان حضارية فقط، بل هي تعددية وطنية. وهنا الكارثة الكبرى، إذ إن الأولى تغني الدولة بينما الأخرى تنقضها.
منذ البداية اعترى التردد خياراتنا، لكننا مشينا فيها تحاشي تهمة ما: افتقدنا الحب الكبير، حب لبنان من اللحظة الأولى. لقد أقرت دولة لبنان الكبير ببرودة مسيحية ورفض إسلامي. المسيحيون خافوا خسارة أرجحية العدد، والمسلمون اعتبروها انفصالا عن الدولة العربية الكبرى الافتراضية. ومع الوقت، حاول الفريقان تجميل مفهوم لبنان ليتقبلاه بأقل مرارة ممكنة، فخاضا معركة الاستقلال وسط ريبة مسيحية والتباس إسلامي. المسيحيون تخوفوا - وكانوا على حق - من أن يكون الاستقلال ممرا نحو العروبة، والمسلمون أرادوه - وكانوا على حق أيضا - للتخلص من الانتداب الفرنسي تحديدا، ثم أوقعوه لاحقا بإشكالات قومية وكيانية... إلى أن صدرت "وثيقة الطائف".
صدر "اتفاق الطائف" بقبول سني قوي، بتحفظ شيعي واضح، وبرفض مسيحي كاسح. السنة حققوا مطلبهم في المشاركة الأوسع، الشيعة وجدوه دون دورهم ومقاومتهم إسرائيل، والمسيحيون، بخاصة الموارنة، فقدوا فيه كل ما جمعوه بالصمود والمقاومة والاستحقاق التاريخي، ثم بددوه بالاقتتال والأحقاد.
لم يحصل فعل الإيمان النهائي بلبنان بعد. بالكاد تلونا فعلي الرجاء (المتجدد) والندامة (الموقتة)، لكن فعل الإيمان الصادق، العميق، القاطع، المطلق لم يتل بعد بلبنان الواحد. ليس لبنان الواحد مساحة العشرة آلاف كيلومتر مربع فقط، بل هو حضارة الأربعة ملايين لبناني عبر ستة آلاف عام. ليس لبنان الواحد تضاريس الأرض، بل تعددية الشعب.
أردنا لبنان واحة حضارية عصرية لا جبهة عسكرية مفتوحة. نعيش اليوم في لبنان آخر، بل في لبنانات مختلفة. كل واحد من هذه اللبنانات ينتمي إلى قرن مختلف ونمط حياة مختلف وثقافة مختلفة. لبنان الذي أحبه يتحفظ عنه لبنانيون آخرون، ولبنان الذي أعترض عليه يعشقه لبنانيون آخرون. وإذا التعددية لم تشكل باختلافاتها وطنا واحدا مثلما الألوان المختلفة تشكل لوحة فنية رائعة، تصبح إعادة خلط التعددية على أسس دستورية جديدة أمرا ضروريا وعاجلا.
لم يفهم اللبنانيون ولا العرب قيمة لبنان. ظهر لبنان الكبير عليهم وكأنه اختراع جديد وغريب. مخلوق عجيب لم يألفه الشرق سابقا. نجم ساطع أزاغ عيونهم. سيمفونية لا تشبه ضوضاءهم ولا تشنف آذانهم. فنكروه كما أنكر اليهود المسيح وصلبوه. لكن موعدنا يبقى مع القيامة... ولو مر اليوم الثالث. نحن شعب الأجيال لا شعب الأيام.
 سجعان قزي

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية