ونحن هنا لن نناقش دان براون في تصوراته وتخيلاته، فالعشرات من قبلنا ناقشوه في هذا الأمر، ولكننا نود أن نلقي الضوء على رؤية د. ثروت عكاشة حول ذلك العمل الذي يعد من أهم إنجازات دافنشي ونقارنه بلوحة "العشاء الرباني" للفنان جيرلاندايو الإيطالي الفلورنسي (1449 – 1494) والموجودة في متحف أوفتزي.
يقول د. عكاشة: "مما يؤسف له أن ما تركه ليوناردو من أعمال فنية قليلة قد انتهت إلينا في معظمها في حالة غير مرضية، ونحن إذ تطلعنا إلى التصوير الجداري الشهير المعروف باسم (العشاء الرباني) الذي يغطي جدارا من جدران الردهة الممتدة التي كانت قاعة طعام لرهبان دير سانتا ماريا دل جراتزي بميلانو، نستطيع أن نتخيل كيف كانت دهشة الرهبان وهم يتطلعون لأول مرة إلى تلك اللوحة التي خلّفها ليوناردو بعد أن أزيح عنها الستار حين تجلت لهم مائدة المسيح، وهو يشرف على مناضدهم الخشبية الممتدة متلاصقة بطول القاعة".
ويرى عكاشة أن هذه الصورة التي رسمها ليوناردو لم يسبق لمصوّر أن رسم ما يماثلها دقة وصدقا، حنى نكاد نقول إن هذا الموضوع لا يمكن تصويره إلى على هذا النحو.
لقد استلهم دافنشي في تصويره تلك اللوحة ما جاء في الكتاب المقدس متطلعا إلى قول المسيح: "أقول لكم إن واحدا منكم يُسلمني، فحزنوا جدا وابتدأ كل واحد منهم يقول له هل أنا هو يا رب؟". ثم إلى ما أضافه إنجيل يوحنا حيث يقول: "كان متكئا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه".
ومبعث ما في المشهد كله من حركة مرجعه إلى هذا الحوار، فنرى المسيح يتوسط المائدة المستطيلة وإلى يمينه ثم إلى يساره التلاميذ الإثنا عشر بين قائم وقاعد. وما أن يجهر المسيح بكلماته حتى يبدو الفزع والهلع على وجوههم، على حين قعد هو ساكنا مطرق العينين مطبق الجفنين، وكأنه في صمته يهمس بقوله: "أقول لكم إن واحدا منكم يُسلمني". ومع هذا الذي يحسه المشاهد للنظرة الأولى من أن هذا التكوين الفني لا مخرج إلى غيره ولا معدل عنه تعبيرا عن هذا المشهد، فإن عناصره تبدو كأنها جديدة مستحدثة، فضلا عما ينطوي عليه التكوين من بساطة تُعزى إليها ما بلغته هذه اللوحة من صيت ذائع.
ويؤكد عكاشة أن هذه اللوحة، هي ولوحة "عذراء مصلّى سيستينا" لرفائيل أكثر اللوحات شعبية في الفن الإيطالي كله، فهي لإمعانها في البساطة ثم لوفائها في التعبير تترك بهذا وذاك أثرها في نفس كل من يتطلع إليها.
ويوضح عكاشة أن الأسى البادي على وجوه الحواريين – في لوحة جيرلاندايو – ثم هذا الذي يبدو من بعضهم وهم يبرِّئون أنفسهم، ثم موقف بطرس وهو يعنف يهوذا، يدلنا على أن المسيح كان قد انتهى من كشفه عن خيانة أحد أتباعه.
أما ليوناردو فقد ضرب بهذه العناصر النمطية التي ما انفك المصورون يحتذونها عُرض الحائط، وهو ما يتمثل فيما فعله بنقله يهوذا إلى صف التلاميذ بعدما كان منعزلا – في لوحة جيرلاندايو – وبتخليصه يسوع من ضجعة يوحنا على صدره. وبهذا أضفى دافنشي على لوحته وحدة التكوين، كما شطر الحواريين شطرين متماثلين إلى جانبي المسيح، مدفوعا إلى هذا بما أملاه عليه النسق العام لمخططه التصويري.
ويمضي عكاشة قائلا إن دافنشي يشكل مجموعات صغيرة يضم كل منها شخوصا ثلاثة إلى اليمين وإلى اليسار، ويظهر المسيح من بين هذا كله في المكان الرئيسي المهيمن، على عكس ما كان على أيدي المصورين قبل. فلقد فات جيرلاندايو أن يجعل للصورة مركزا رئيسيا كما فعل ليوناردو، فإذا هو يصور جمعا لا مركز له قد تزاحمت فيه شخوص نصفية لا رابط بينها، تراصت بعضها إلى جانب بعض، يحصرهم خطان أفقيان هما خط المائدة وخط الجدار الذي كان ينبغي أن تشغله صورة المسيح، الأمر الذي حمل جيرلاندايو على أن يزحزح صورة المسيح إلى اليمين قليلا دون مبالاة، وهو ما لم يفعله ليوناردو الذي كان يرى وجوب وضع صورة المسيح في مركز الصورة، إذ لم ير ضرورة لوجود مثل هذا العمود الحامل للسقف، واستغل الخلفية لبلوغ ما يريد فعمد – أي ليوناردو – إلى وضع المسيح جالسا في هالة الضوء النافذ من فتحة الباب وراءه. وكذا تحلل من هذين الخطين الأفقيين وهما المائدة وخط الجدار، إذ كان لا يمكنه الاستعاضة عن المائدة، لهذا جعل الشخوص وراءها يبدون مطلقي الحركة لكي يظفر بجديد من المؤثرات يثير بها انفعال المشاهد.
وما أن فرغ المسيح من أداء طقس القربان المقدس (بينما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ، وقال: خذوا كلوا؛ هذا جسدي، وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا) فثار التلاميذ ثورة أشبه ما تكون بالزوبعة، وإن لم يفقدوا معها وقارهم، فبدوا وكأنهم على وشك أن يُحرموا من أغلى كنز بين أيديهم، وهو ما صوره ليوناردو بما أضافه إلى حقل الفن من ذخيرة التعبيرات التي لا تتناهى فأكسبت شخوصه حدة لا مثيل لها خرجت عما كان مألوفا بين من سبقوه.
ويرى عكاشة أن ليوناردو لا يُفرط في تحميل الأشخاص فوق ما يمليه الموقف، فهو يخص كل شخص في الصورة بدور يقوم به، فصور الشخوص على الأطراف في هدأة وسكون، بوضعه في كل طرف من طرفي الصورة شخصين قائمين مُجانبين يحدان المشهد كله، ويمتد ما هما عليه من هدوء إلى الشخصيين التاليين لهما، ثم إذا هو يجعل مجموعات الشخوص التي تحيط بالمسيح في حركة مائجة.
وإلى يسار المسيح بسط تلميذ من التلاميذ ذراعيه منفرجتين، وكأنه قد شُده بمقولة المسيح فظن أن الأرض قد مادت من تحته، وإلى يمين المسيح وعلى مقربة منه نرى يهوذا وقد ارتد إلى الوراء في لهفة، وجاءت أشد المفارقات في صورة يهوذا وهو بين المجموعة التي تضم يوحنا. وفي وسط هذا الهرج والمرج نرى المسيح ساكنا وقد بسط يديه مسترخيتين شأن من فرغ من الإفضاء بكل ما في صدره.
ويرى عكاشة أنه في لوحات كبار الفنانين الذين سبقوا ليوناردو دافنشي وصوروا هذا الموضوع نفتقد الوحدة الجامعة لشتات المشهد، فنرى الحواريين مشغولين عن المسيح يجادل بعضهم بعضا وهو يخطبهم، فلا يُفصح المشهد عما إذا كان المقصود به إشارة المسيح إلى مَن أوقع به، أو قيامه بأداء مراسيم القربان المقدس بين أيدي تلامذته أثناء العشاء الرباني.
وإذ تزين هذه اللوحة الجدار العرضي المواجه لقاعة الطعام الطويلة الضيقة التي لا ينفذ إليها الضوء إلا من زاوية واحدة فحسب، جعل ليوناردو هذا المصدر الضوئي مصدرا لما أضفاه على لوحته من ضوء، وهو في هذا لم يأت بجديد، فنرى الضوء في هذه الصورة ينفذ من أعلى الجانب الأيسر ليضيء شيئا الجدار الأيمن الذي تنعكس عليه درجات الضوء متفاونة بين العتمة والإشراق أو بين الداكن والفاتح "كياروسكورو" حتى إذا وزاناها بلوحة جيرلاندايو نجد الأضواء في الأخيرة على استواء لا تفاوت بينها.
ونرى الضوء في لوحة ليوناردو يغمر غطاء المائدة ساطعا، كما يغشى رؤوس التلاميذ في تلاعب وتنوع فيضم إلى التأثير التشكيلي تأثيرا ضوئيا، وإذا يهوذا يبدو لنا على الرغم من أنه نقله من مكانه المنعزل وضمه إلى زمرة التلاميذ وكأنه ما يزال منعزلا عنهم، وذلك ما احتال به ليوناردو، إذ جعله الوحيد الذي أدار ظهر كله لمصدر الضوء فغدا وجهه في غبشة الظل، وبهذا ميزه هذا التمييز العازل، وهي نفس التقنية التي لجأ إليها الفنان روبنز فيما بعد عند تصويره لوحة "العشاء الرباني" المحفوظة في متحف بريرا بميلانو.
0 comments:
إرسال تعليق