وقد أدى الحمار في اللوحتين وظيفته كأداة انتقال مناسبة لروح العصر الذي رسمت فيه. أما محمود سعيد الذي عاش في عصر مختلف تماما، وهو النصف الأول من القرن العشرين، فقد تطورت وسائل الانتقال والمواصلات وأصبحت هناك بدائل كثيرة ومتعددة، ولكن الفنان تمسك بجو البيئة الريفية والشعبية في معظم أعماله، وكان الحمار يلعب دورا مؤثرا في تلك البيئة، وعلى سبيل المثال في لوحته الأشهر "المدينة" التي رسمها عام 1937 ونقل إليها بنات بحري الثلاث (التي رسمها عام 1935)، نجد حمارا في أقصى يسار اللوحة يجلس عليه طفل صغير ويقف خلفه أبوه ذو الوجه الإخناتوني. الطفل يحملق في بائع العرقسوس الموجود في أقصى يمين اللوحة، متلهفا إلى كوب عرقسوس، بينما يقف أبوه بجوار الحمار مغمض العينين مستكينا لا يستطيع أن يلبي رغبة ابنه الصغير، بينما يعطي الحمار قائمتيه للجميع (في منظر عكسي) وكأنه يريد الخروج من اللوحة.
يقول صفوت قاسم عن حمار لوحة "الجزيرة السعيدة" لمحمود سعيد (سلسلة ذاكرة الفنون – رقم 10): "تذكرنا صورة الأم وطفلها على ظهر الحمار بقصة مريم البتول والسيد المسيح طفلا في رحلة اللجوء إلى مصر، دلالة على طيبة هذه الأرض المباركة وأمنها".
ويرى قاسم أن الحمار - في تلك اللوحة - كرتوني أبيض شديد الألفة صغير الحجم إذا ما قورن بأبعاد الأم المقدسة وما تضم إلى صدرها من عطية للرب. وهو هنا يذكرنا بحمار لوحة "دخول المسيح إلى أورشليم" للفنان جوتو.
أما لوحة "راكب الحمار" فيرى صفوت قاسم أنها تعد امتدادا لنفس المحور بموضوعاته المستمدة من البيئة الريفية وما يميزها، ويؤكد أن الحمار الكرتوني الأبيض الصغير الذي ظهر في لوحة "الجزيرة السعيدة" والذي بدا وكأنه دميه من الجبس يعود إلى الظهور في لوحة "راكب الحمار" بوجهه الجانبي ذي العين التي بدت أقرب لنقش فرعوني غائر، بينما جلس الرجل الذي استدعاه ليلعب دور البطولة – في مقابل دور المرأة وطفلها في المشهد الأول – وقد بدا عملاقا إذا ما قورن بكتلة الحمار وأشكاله الخلفية، فإذا ما تخيلناه واقفا فإن طول قامته يمكن أن يتجاوز ثلاثة أضعاف ارتفاع الحيوان الأليف.
ويشير صفوت قاسم إلى أن علاقة الرجل والحمار تشكل تكوينا هرميا ارتبط عضويا بالشاطئ والبحيرة اللذين أسهم قوس التقائهما في ربط الكتلة الهرمية بالأضلاع الثلاثة للوحة بحنكة وخبرة.
وعن جماليات لوحة "راكب الحمار" يوضح صفوت قاسم أن أشرعة القوارب البيضاء في اللوحة لعبت دورا إيقاعيا في تقابلها مع شكل أذني الحمار وترديدها لهما، بينما تقابلت أجزاء جسد الحمار مع السحب البيضاء المجسمة التي أسهم ثقلها في بقائها داخل اللوحة.وعن الحمار الذي ظهر في لوحة المدينة (1937) التي سبق الإشارة إليها يرى قاسم أن راكب الحمار طرأ عليه كثير من التعديلات (مقارنة بشكله ووضعه في اللوحة القديمة) حيث أضيفت إلىه كتلة الطفل الذي بدا بأسطوانية أجزائه المضغوطة أشبه بدمية قليلة التفاصيل، وقد حملق ذاهلا إلى الدورق اللامع الذي يحمله بائع العرقسوس، وكأنه يشتهي بعضا مما فيه. أما الرجل الذي بدا كتمثال حجري من عصر أخناتون، فقد أغمض عينيه منصرفا عن الحوار الصامت بين الطفل وبائع العرقسوس الذي يغريه برنين الطاسات.
وعن جماليات حمار لوحة "المدينة" يقول صفوت قاسم: إن معالجة رأس الحمار الأبيض المدندش ذي العين اللوزية المدروسة بعناية، والأذنين المخروطتين الطويلتين؛ توافقت مع معالجة وجه الرجل الإخناتوني، بينما أسهم الترديد الإيقاعي لشكل أذنيه مع أشرعة المراكب النيلية في ربط مقدمة اللوحة بعمقها، كما أن لونها الأبيض تقابل مع رداء بائع العرقسوس، لتنتقل العين منه إلى الأشرعة – في اليمين واليسار – إلى الحمار الأبيض.
أما الناقد الفني صبحي الشاروني فيقول عن حمار محمود سعيد إنه من عناصره المحببة ويظهر في عدد كبير من أعماله، وأجمل حمار رسمه في لوحة "الشواديف" التي يظهر فيها جحش صغير في مقدمة الصورة أبيض مغسولا، مزججا أنيقا وأرستقراطيا، ويشبه إلى حد كبير الجحش الذي رسمه الفنان الفرعوني من الدولة القديمة في إحدى لوحات النحت البارز حيث يقف هذا الجحش الفرعوني في مواجهة صف من الحمير.
ويضيف الشاروني: "إن اهتمام محمود سعيد برسم الحمار في لوحاته يرجع في الحقيقة إلى أن هذا الحيوان هو أحد العناصر التي حفظها التراث وبقيت حتى اليوم في حياتنا الشعبية، بل ولا تزال ذات أهمية خاصة في حياة المصريين سواء في المدينة أو في الريف. والحمار عند محمود سعيد فيه إنسانية وأناقة ورشاقة، وقد رسمه مواجها، كما رسمه جانببيا. لقد تحول هذا الحيوان عند الفنان إلى موضوع تعبيري وجمالي واهتم به اهتماما خاصا بعد الإنسان مباشرة".
وبالإضافة إلى لوحات سعيد السابقة سنجد لوحات أخرى رسم فيها الحمار مثل: لوحة "أمومة" 1931، ولوحة "الأسرة" 1938، وبطلها الأوحد – كما يرى الفنان عصمت داوستاشي – هو ذلك الحمار السعيد، ولوحة "المينا" 1959، وغيرها.
وفي روايتي "اللون العاشق" أدرت حوارا بين توفيق الحكيم ومحمود سعيد، حيث قال الحكيم له: كلما أتيتُ إلى جروبي أتأمل لوحتك "راكب الحمار" المعلقة على الحائط بالداخل. وأضاف: إن هذا الحمار الكرتوني الأبيض الصغير يلهمني بسلسلة مقالات سأكتبها بعنوان "حمار الحكيم".
0 comments:
إرسال تعليق