ولهذا يتم تداول الإحصائيات التي توثّق كلفة الحرب بكل استهتار، وكأننا نحصي كائنات لا قيمة لها وحواضر فائضة عن الحاجة يجب إزالتها، ومع أن الأرقام التقديرية مرعبة، فلا أحد معني بمليون إنسان فقد حياته ونصف مليون مجهول المصير ومئات الآلاف ممّن أصيبوا بإعاقة دائمة، ناهيك عن أعداد لا تحصى ممّن تعرّضوا لإعاقة نفسية، ومن جانب آخر لا أحد يبالي بملايين السكان الذين تعرضوا لحصار خانق في المناطق التي كانت محررة، ممّن عانوا المجاعة وانعدام الخدمات الصحية، ما انعكس بشكل كارثي على صحة الأطفال الجسدية والنفسية.
وكما يُقال إن تدمير أي شعب يتم أولاً بتدمير مؤسساته التعليمية، فكم مدرسة تم تدميرها؟! وكم عدد الكوادر التعليمية ممن ابتلعتهم الحرب؛ سوف نخمّن العدد إذا عرفنا أن أكثر من نصف التلاميذ والطلاب السوريين باتوا بلا تعليم. هذه المآسي كلها في كفة وكارثة النزوح السكاني في كفة أخرى، وذلك نظراً لخطورة هذه المشكلة إذ إن أسوء ما يمكن أن يتعرض له بلد ما هو النزيف السكاني، حيث أن نصف سكان سوريا هم الآن خارج بلادهم، هذا هو التدمير الحقيقي للكيان السوري فمن له مصلحة في تجفيف سوريا من سكانها؟.
لقد صرّح رأس النظام ضمنياً في أكثر من مناسبة بأنه مستعد أن يستغني عن أي سوري لا يواليه، وبنفس الوقت فإن سلطات النظام لم تكتفِ بجلب مقاتلين أجانب بل إنها تعمل على منح الجنسية السورية للإيرانيين والمرتزقة القادمين من دول آسيا الوسطى، وكذلك تمكين هذه العناصر الدخيلة من استملاك الأراضي والعقارات في دمشق ومحيطها، بهدف تدمير الديموغرافية الاجتماعية والثقافية لسكان سوريا، والإتيان بتركيبة جديدة تحوّل السوري إلى أقلية وتحول الدخلاء إلى أكثرية، ونظراً لما سيترتب على هذه العملية من تداعيات خطيرة على مستقبل سوريا لأن عملية توطين وتجنيس هذه العناصر ستصبح أمراً واقعاً، كما أن تغريبة السوريين ستكون أمراً واقعاً، فسيجد المواطن السوري أنه غريب في أو عن بلده.
وهنا نجد أن المستفيد بالدرجة الأولى من استمرار الحرب السورية هي إيران التي تخطط منذ عقود باحتلال بلدان المنطقة من العمق، أما المستفيد الثاني فهي الدوائر الغربية التي تعتبر أن الثروة البشرية أثمن رأسمال في الدولة، وهي وفق حسابات مستقبلية تنظر إلى أن النمو السكاني في العالم العربي هو خطر يهدد البلدان الغربية، وقد عززت الحركات الإرهابية هذا الاعتقاد لديهم، وبغية مواجهة هذا الخطر يجب الحد من الانفجار السكاني في الشرق الأوسط.
ويبدو أنهم في الخفاء عادوا يطبّقون علينا نظرية عالم الاقتصاد الإنكليزي توماس مالتوس 1766 - 1834 الذي دعا إلى التخلص من الفائض البشري، بإشعال الحروب والسماح بانتشار الأوبئة والمجاعات وكذلك رحّب بالكوارث الطبيعية، وإنه لإنجاز عظيم أن يتم تدمير قرابة 13 مليون إنسان سوري ومثلهم في اليمن وليبيا والعراق، إذ بفعل الحروب والنزاعات أصبحت شعوب كثيرة في المنطقة معاقة، وهذا يعني بنظر المالتوسيين الجدد تحييد عشرات ملايين البشر، وشلّ قدرات عشرات الدول لمئات السنين، إذ تعتقد تلك الدوائر أنها عبر الحروب القذرة وما ينجم عنها من كوارث سوف تحدّ من زيادة عدد السكان في المنطقة وتخلق أجيالاً من المعاقين جسدياً ونفسياً، وتؤسس لمجتمعات ممزّقة يسودها الجهل والتخلف والفقر فلا تعود قادرة على النهوض بنفسها، وهذا من وجهة نظرهم يجنب الغرب مخاطر الانفجار السكاني في بلدان الشرق الاوسط.
من يفكّر في طريقة تعاطي عواصم صنع القرار والمنظمات الأممية مع الأزمة السورية، وكيف أن المجتمع الدولي لعب دوراً كبيراً في إيصال الأوضاع إلى ما هي عليه من التردّي، وذلك من خلال سكوته على تدخل مختلف الدول والأطراف في الصراع السياسي والعسكري بين المعارضة والنظام، فسوف يميل إلى البحث عن أسباب أخرى غير التي نظنّها، وراء الصراع في سوريا والتصارع عليها، ربما هنالك سرّ يدفع مختلف الأطراف إلى التهافت بشهية نهمة على إبادة الشعب السوري أولاً وتدمير بلاده ثانياً، ورغم تحفظي الشديد على نظرية المؤامرة إلا أن ما يجري في الأشهر والأيام الأخيرة يشير إلى أن ما يجري بين الدول في سوريا ليس صراعاً عليها، بل ثمّة تفاهم كبير بين معسكر موسكو ومحور واشنطن على لعب وتبادل الأدوار وعلى حفظ مصالح كافة الأطراف باستثناء مصالح المواطن السوري.
فإذا كانت قوى الصراع - الغير سورية - شبه متفقة، فلماذا تحرص على إطالة أمد الصراع المسلح؟ ولماذا تسير إلى الحل السياسي بطريقة سلحفاتية تتخللها محطات استراحة مع غفوات طويلة؟، مع أن موسكو تستطيع الضغط على نظام الأسد وكذلك تستطيع واشنطن التأثير على المعارضة بهدف تذليل العقبات والإسراع في الحل السياسي.
ألا يدلّ تعمّد الروس في السير ببطء على طريق الحل وكذلك عدم مبالاة الأمريكيين بالعملية السياسية الخاصة بسوريا، على أنهما يرغبان بتأجيج النزاعات والحروب ليس في سوريا فحسب، بل كذلك في المناطق الأخرى المشتعلة بالشرق الأوسط، والسؤال لماذا ترغب عواصم القرار في إبقاء المنطقة مشتعلة.
هل هي الأسباب التقليدية التي كان نظام الأسد يلقننا إياها في المدارس، كالنفط العربي والموقع الاستراتيجي وأطماع الإمبريالية - الصهيونية "في سرقة الشمس المشرقة في سماء العرب" بهدف استثمارها في إنتاج الطاقة الكهربائية وإلى آخر هذه المواويل، أم أن هنالك تحت هذه الأسباب أسباب؟
هنا أود الإشارة إلى أنني غير معني بخطاب الإسلام السياسي، ولكن أنظر إلى المسألة من زاوية مختلفة تماماً، فلو كانت القضية اقتصرت على مصالح سياسية واقتصادية ونفوذ، فإن نظام الأسد الأب والابن كان خير حارس لمصالح الروس والأمريكيين وإسرائيل، وما كانت هذه القوى تحتاج إلى ثمان سنوات من الاستثمار في الدم السوري حتى تحقق المصالح آنفة الذكر، ولو فرضنا- فرضية غير صحيحة- أن النظام كان على خلاف مع أمريكا وإسرائيل فإنه بعد الثورة وفي سبيل الحفاظ على سلطته، كان مستعداً للتوقيع على الشروط الأمريكية - الإسرائيلية دون قيد أو شرط، مقابل امتناع واشنطن عن التدخل الجدي لمساعدة الشعب السوري في إسقاط هذا النظام، فمن سمح لإيران وروسيا ودول أخرى والميليشيات الطائفية متعددة الجنسية باحتلال البلاد لا يصعب عليه الترحيب باحتلالات إضافية.
ألا يدل تراخي واشنطن مع النظام وحلفائه والتدخل الروسي على وجود اتفاق ضمني منذ البداية على إدامة الحرب في سوريا، وترك أداة إبادة الشعب السوري تعمل بغية القضاء على أكبر عدد ممكن من أبنائه؟.
وحتى تتوقف هذه الأداة، على السوريين كافة من معارضة وموالاة إدراك الأهداف القذرة لهذه الحرب والاقتناع بأن استمرارها لا يؤدي إلا إلى مزيد من الإبادة، وأن الخاسر الوحيد هو الشعب السوري، فلماذا لا تتنبه الأطراف السورية المتصارعة إلى أن موسكو وواشنطن غير مستعجلتان أبداً في إيجاد مخرج من الأزمة، وأنه رغم السماح للنظام بالتفوق العسكري، إلا أن مصلحة العواصم تتطلب الإبقاء على بؤر هنا وهناك خارج سيطرة قوات النظام يمكن تسخينها ساعة اللزوم، أي مزيداً من الضحايا والنازحين وتدمير ما تبقى من العمران في سوريا وتوسيع الشق في المجتمع السوري إلى حد العداء بين فئاته المختلفة وهذا ما يسوق إلى حتمية التقسيم.
0 comments:
إرسال تعليق