ان تسعى ايران الى اثبات ان لبنان ورقة من اوراقها الإقليمية دليل ضعف وليس دليل قوّة. تستطيع ايران استخدام ورقة جنوب لبنان. ولكن ما الذي ستكون عليه نتيجة ذلك، خصوصا ان الجميع بات يعرف ان أي فتح لجبهة جنوب لبنان سيكون مختلفا الى حدّ كبير عن حرب صيف العام 2006 التي سمحت فيها إسرائيل لـ"حزب الله" بالانتصار على لبنان واللبنانيين لحسابات خاصة بها. ليس سرّا لدى كل من لديه علاقة بالسياسة الدولية والإقليمية من بعيد او قريب ان أي حرب جديدة يمكن ان يتسبب بها "حزب الله" ستعود بكارثة على البلد. كارثة بكلّ معنى الكلمة، خصوصا في ظلّ وجود إدارة أميركية ليست مستعدة لممارسة أي نوع من الضغوط على إسرائيل. على العكس من ذلك، تبدو هذه الإدارة في توافق تام معها. لا حاجة الى دليل على ذلك اكثر من دليل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الاميركية الى المدينة المقدّسة.
يثير ما نشهده حاليا في لبنان من مناورات يقف خلفها "حزب الله"، من بعيد طبعا، تساؤلات في شأن السبب الحقيقي للاصرار على ان يقبل الرئيس سعد الحريري بما لا يستطيع القبول به بايّ شكل... أي بحكومة تعاني في تركيبتها من خلل كبير تعبر عنه الرغبة في تهميش "تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي يتزعمه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
من يضغط في اتجاه تشكيل مثل هذه الحكومة لا يعرف انّ مثل هذه المناورات مرفوضة وانّ اللبنانيين الذين انتفضوا على الوصاية السورية في 2005 لن يرضخوا للوصاية الايرانية في السنة 2018.
قبل كلّ شيء، لا تسمح تركيبة مجلس النواب الجديد باعتبار ان هناك أكثرية واقلّية، اللهمّ الّا اذا اعتبر "التيّار الوطني الحر" نفسه من ضمن النواب الـ74 الذين يرى الجنرال قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الايراني انّهم يمثلون الكتلة الايرانية في البرلمان. الى اشعار آخر، لم يصدر عن "التيار الوطني الحر" وعن رئيسه جبران باسيل ما يؤكّد ذلك. لكنّ الملفت ان كلّ تصرفات باسيل توحي بانّه ليس بعيدا عن هذا الجوّ الذي يعكس الى حدّ كبير رغبة في تصفية حسابات قديمة مع سمير جعجع من جهة ورغبة أخرى في الخروج عن اتفاق الطائف من جهة أخرى وذلك من باب الحساسية الزائدة تجاه اهل السنّة وما يمثلونه على الصعيد الوطني والاقليمي.
بكلام أوضح، ليس من مصلحة لبنان الدخول في مغامرة من هذا النوع في وقت بات معروفا ان سعد الحريري، الذي بات كتاب التكليف في جيبه، لا يستطيع بأي شكل ان يرأس حكومة يشكّلها له "حزب الله".
انّ الطفل اللبناني يعرف ان ثمّة حاجة قبل كلّ شيء الى احترام اتفاق الطائف وليس العمل على تقويضه من منطلق مقولة "العهد القوّي". يمكن لأيّ عهد في لبنان ان يكون قويّا في حال التفاف اللبنانيين، بكلّ طوائفهم حوله. يكون العهد قويّا عندما تتشكل حكومة قوية متوازنة وفاقية تأتي بمساعدات عربية ودولية قبل ايّ شيء آخر. وهذا يعني في طبيعة الحال مراعاة الأصول والقواعد والدستور بدل الكلام الذي لا معنى له عن استعادة حقوق المسيحيين او إعادة النازحين السوريين الى ارضهم من دون مراعاة للوضع في الداخل السوري ولمواقف المنظمات الدولية المختصة التابعة للأمم المتحدة، في مقدّمها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
الاهمّ من ذلك كلّه انّ القوي فعلا لا يستقوي على اللبنانيين الآخرين بسلاح "حزب الله" غير الشرعي. لا يمكن للبناني عموما وللمسيحي خصوصا تحقيق انتصارات من ايّ نوع بالاعتماد على سلاح غير شرعي تشهره ميليشيا مذهبية ليست في نهاية المطاف سوى لواء في "الحرس الثوري" الايراني.
وحدها لغة المنطق تجعل العهد قويّا. والمنطق يقول ان من الضروري تشكيل حكومة يتمثل فيها الجميع وتضمّ كفاءات وليس حكومة يتمتع فيها "حزب الله" بأكثرية الثلثين لتمرير أمور خاصة به وبايران.
يخطئ من يعتقد ان "حزب الله" يمتلك ايّ مشروع ذي طابع حضاري للبنان. كلّ ما يهمّ الحزب هو استرضاء ايران وتعويض الخسائر التي لحقت بها على كلّ صعيد بدءا بايران نفسها. لو كان لدى النظام الايراني نموذج يقدّمه للايرانيين اوّلا، لما كان ما يزيد على نصف من المواطنين في هذا البلد الغنّي يعيشون تحت خط الفقر. لا يمتلك النظام الايراني سوى آلة قمعية متطورة يستخدمها في مجال نشر البؤس والتخلف والفساد على كل صعيد. امّا في الخارج، فلا يمتلك النظام الايراني سوى الهرب المستمرّ الى امام مستخدما ادواته المتمثلة في الميليشيات المذهبية التي يستثمر فيها منذ سنوات طويلة.
يندرج السعي الى فرض حكومة لبنانية تكون بإمرة "حزب الله" في سياق الهرب الايراني الى امام. يريد النظام الايراني ان يقول للإيرانيين انّه يسيطر فعلا على بيروت التي ادرجها في قائمة العواصم العربية التي يتحكّم بها، او على الاصح التي يعتقد انّه يتحكّم بها. أضاف بيروت الى بغداد ودمشق وصنعاء وذلك مباشرة بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014.
ليس طبيعيا ان تتشكل في لبنان حكومة غير طبيعية وذلك بغض النظر عمّا اذا كان المشروع التوسعي الايراني يتقدّم او يتراجع. الواقع الأقرب الى الحقيقة ان هذا المشروع يتراجع. لم تتحمل ايران انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في شأن برنامجها النووي، كيف ستتحمل العقوبات الجديدة التي ستخنق صادراتها النفطية. لم تتحمّل مقتدى الصدر في العراق. الغت نتائج الانتخابات لمجرّد ظهور توجه شعبي، لدى الشيعة خصوصا، يرفض الهيمنة التي تمارسها طهران على السياسيين العراقيين.
بعض التواضع اكثر من ضروري لبنانيا. لا حاجة الى الدخول في تفاصيل الوضع السوري والمأزق الايراني هناك والذي في أساسه ان لا وجود لأيّ قوة إقليمية او دولية على استعداد للقبول باستمرار الوجود العسكري الايراني في ارض سوريا.
كيف يمكن ايجاد ترجمة للتواضع اللبناني على الأرض؟ يبدأ ذلك بالاعتراف بان سلاح "حزب الله" لا يعيد للمسيحيين حقوقهم، هذا اذا كانت للمسيحيين حقوق مغبونة بالفعل. ما يعيد الحقوق لجميع اللبنانيين يبدأ بنبذ كلّ سلاح غير شرعي وصولا الى الاعتراف بانّ هناك حقوقا للبنانيين جميعا ضمنها اتفاق الطائف، على الرغم من وجود بعض الثغرات فيه. الخروج من الطائف عبر تشكيل حكومة بطريقة مضحكة تستهدف اظهار ان الكلام عن "العهد القوي" يمثل خروجا الى المجهول، أي الى "المؤتمر التأسيسي" الذي دعا اليه منذ سنوات عدة الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله. انّه الطريق الاقصر الى المثالثة بين الشيعة والسنّة والمسيحيين بدل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
هل هذا المطلوب حاليا من وراء كلّ الضغوط غير المباشرة التي يمارسها "حزب الله" لتشكيل حكومة ترضي ايران في لبنان؟
0 comments:
إرسال تعليق