الأربعاء، يونيو 19، 2019
تجربتي مع الجيش السوري في لبنان
الأربعاء, يونيو 19, 2019
اضف تعليق
في هذه الأيام تحلّ ذكرى انسحاب جيش النظام السوري من لبنان
(26 نيسان 2005)، بعد احتلال دام ثلاثين عاماً، شهد فيها اللبنانيون
واختبروا ما لا يُحصى من تجارب مريرة وكالحة. وفي هذه الذكرى، أستعيد تجربة
شخصية لا أكثر، يعرف كثير من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين ما
يماثلها وما يفوقها سوءاً بأشواط. وعلى أمل أن يأتي اليوم الذي تتحرر فيه
سوريا من احتلالاتها، وبالأخص احتلال جيش الأسد، ويتاح للسوريين أن يدونوا
ذاكرتهم، وتجربتهم مع هذا "الاحتلال"، بوصفهما ماضياً منصرماً وتاريخاً
منقضياً..
المشهد الأول: الحاجز
1978: مضى عام على اغتيال كمال جنبلاط. كنت في الحادية عشرة
من عمري، في الصف الخامس ابتدائي. وفي أثناء عودتي إلى البيت بالباص
المدرسي، عند شارع الأونيسكو في وسط "بيروت الغربية"، أمد ذراعي من نافذة
الباص وأرفع إصبعي الوسطى بوجه حاجز للجيش السوري، يبعد نحو عشرين متراً.
فعلتها متأثراً بالشتائم التي راح كل الصبيان يلفظونها بحق الجيش السوري ما
إن تراءى الحاجز من بعيد. فعلتها، رغبة مني أن أظهر لأقراني شجاعة أدعيها.
فعلتها بنية إثارة إعجاب رفاقي وحسب، معتمداً على أن الجنود لن يروا إصبعي
الوسطى هكذا بالكاد خرجت من النافذة، على مبعدة عشرين متراً.
لكنهم رأوها. أطلق جندي سوري النار في الهواء، صارخاً بسائق
الباص أن يتوقف. ما بقي في ذاكرتي هو الرعب، بكاء الأطفال، ارتجاف ركبتيّ
على نحو مؤلم، تضرع السائق للجنود وهو يتلقى الصفعات. ولست أدري كيف مع كل
هذا الخوف المريع، الخارج عن أي سيطرة، بقيت تلك الشجاعة الأخيرة في قلوب
الأطفال الذين لم يشوا بي.
المشهد الثاني: البوريفاج
1985: كنت مقاتلاً في شوارع الحرب. "المراقبون" السوريون، أي
جهاز الاستخبارات السورية، الذي عاد إلى "بيروت الغربية" منذ أشهر، لديه
مهمة محددة: تنظيف المدينة من "العرفاتيين"، إحكام السيطرة على قادة
الميليشيات، القبض على "العناصر غير المنضبطة". حينها تحول فندق
"البوريفاج" مقراً لهم. الأخبار المتداولة تتراوح بين اغتيالات في الشوارع
أو الخطف من المنازل أو اقتياد العشرات إلى "المزة" في سوريا، حيث التعذيب
أو الإعدام أو الاختفاء.
وبسبب كثرة الصدامات بيننا (الحزب القومي) وبين مسلحي الحزب
التقدمي الاشتراكي، صار رأسي مطلوباً. قرر الحزب تسليمي لـ "المراقبين"
السوريين. مسؤولي العسكري يأمرني بركوب السيارة معه، برفقة حارسين. المشوار
ينتهي عند باب فندق البوريفاج. إذاً، رفاقي قرروا التخلي عني وتسليمي
للمخابرات السورية. كانت مشاعري متلبدة تماماً. ورغم اصفرار وجهي وجفاف
فمي، كان الهدوء التام يسيطر عليّ. رجال المخابرات عند المدخل بأسلحتهم
يرمقونني باحتقار تام، مع أنني كنت في لحظتها أزدري رثاثة هندامهم
وعدم درايتهم بأي موضة. ينظر إليّ مسؤولي الحزبي "الرفيق وليد" كما لو أنه
يواسي رجلاً محتضراً. في المصعد، يأمرني
ألا أتكلم أبداً ولا أجاوب إلا
بحدود السؤال: كن مهذباً.
في الطبقة الخامسة من البوريفاج، يأخذني مسلحان من المخابرات
ويدخلانني إلى غرفة حيث جلس خمسة رجال بمسدساتهم على طاولة لعب الورق، فيما
كومة الأسلحة مركونة قرب السرير الكبير. عبقة دخان السجائر ورائحة الشاي
المختمر والدبِق.. تسيطر على هواء الغرفة. حارساي يضغطان على كتفي: اجلس
هنا يا حيوان. قرفصت على الأرض قرب زاوية الباب. واحد من لاعبي الورق يلتفت
إلي رامياً الورق من يديه: "شو هالطلة يا نحس". يبدو أنه خسر وكنت سوء
طالعه. الليل في الخارج يصطخب بالأمطار الغزيرة، وفي رأسي تطن فكرة واحدة:
لو أني ابن عائلة محترمة ولديّ "غيرل فريند" أقود بها سيارة رائعة على
كورنيش المنارة وهي تستمع إلى أغان عاطفية ورأسها يتكئ على كتفي وأشم رائحة
شعرها.
أدخلوني إلى غرفة أخرى، نظيفة ومرتبة، جلس فيها وراء المكتب،
ضابط المخابرات أمير التل (وربما أمير تلة، لست متأكداً). أحمر الشعر بوجه
مليء بالنمش، واللؤم يشرقط من عينيه. بادرني فوراً: "أنت يا وَظْوَظْ يوسف
بزي؟"، مستغرباً أن يكون هذا الولد الضئيل النحيل هو المتهم بكل المشاكل
والاشتباكات: "سننظف بيروت من أمثالك". بت موقناً أنني سأذهب إلى المزة.
وربما لن أصل إلى هناك. سيأخذونني إلى بؤرة ما ويصفونني برصاصة في الرأس.
نجوت من البوريفاج، بصفقة بين الحزب والمخابرات. تم تهريبي
إلى ضهور الشوير. لكن منذ تلك الزيارة، بدأت بالتخطيط لأن أكون مثل ابن
عائلة محترمة، لديه "غيرل فريند" يصطحبها بسيارته إلى السهر، ويعاشر الناس
بلطف وتهذيب.
المشهد الثالث: "الوحدات الخاصة"
1986: إنها الثانية والنصف بعد منتصف الليل. موقع عين التفاحة
– شرين، في المتن الشمالي (قرب ضهور الشوير). المهمة: نصب كمين متقدم في
الفيلا المهجورة. عتمة كاملة. أنا ورفيق آخر وثلاثة جنود من "الوحدات
الخاصة" السورية. علينا أن نكمن في الطابق الأول من المبنى، الذي لم يكتمل
بعد، والذي يفصله عن موقع الجيش اللبناني أقل من خمسين متراً.
كان عليّ أن أضع بطانية فوق رأسي أثناء تحدثي بصوت هامس عبر
الجهاز اللاسلكي، لشدة قربنا من العدو في هذا الصمت الليلي الفادح. أمرت
صالح، جندي الوحدات، أن يحاذي النافذة، ورفيقي أن يراقب مدخل البناية،
والرجلين الآخرين مع الرشاش المتوسط (بي. كي. سيه) أن يكمنا عند النافذة
الأخرى. إذا شعر الجيش اللبناني بوجودنا سيهدم الفيلا على رؤوسنا، ولن نخرج
أحياء. أجلس قرب صالح وأهمس: "كيف الوضع؟". انتبه فجأة أنه يبكي. الخوف
والرعب استفحلا به. كان متخشباً ومشلولاً: "يلعن لبنان والحرب. شو جابني
لهون. بدي إرجع لضيعتي وأمي وخطيبتي". كانت أسنانه تصطك ورأسه ملتصق
بالجدار ولا يتجرأ على النظر من النافذة. اشتبهنا بأصوات خفيفة وقريبة.
خارت قواه: "سنموت هنا". تكوم على نفسه وتحجّر.
انسحبنا قبل طلوع الشمس. عند الظهر، كان صالح في جولة على بيوت القرية المهجورة، حاملاً ما خف وزنه وغلا ثمنه: "هدايا لخطيبتي".
المشهد الرابع: السفارة الروسية
1990: بعد ظهر رائع من الحب، أرافق صديقتي (الـ"غيرل فريند")
مشياً إلى منزلها. نمرّ على الرصيف بمحاذاة جنود سوريين، هم حراس السفارة
الروسية في بيروت. يرمقني أحدهم بنظرة حسد. لا أعير الأمر أي أهمية. أودع
صديقتي عند مدخل منزلها، عائداً على الطريق نفسها لوحدي. هذا هو الخطأ
الفادح الذي ارتكبته، أي الشعور بالاطمئنان في مدينتي بعد سنة على انتهاء
الحرب وأفول زمن الميليشيات. حماقة كاملة ألا أهتم بمشاعر جنود لا شغل لهم
سوى مراقبة الفتيات بحسرة، ورمي الحسد (بحقد) على شبان بيروت.
ما إن أصل إليهم عابراً، غير ملتفت نحوهم، حتى يبادرني صوت
واحد منهم: "أنت.. تعا لهون". في هذه اللحظة تأكدت من أسوأ مخاوفي التي
راودتني كحدس قبل ثوانٍ من وصولي إليهم، واستخففت بها. خاطرة سريعة رميتها
قبل لحظة من النداء اللئيم. لماذا عدت من الطريق ذاتها أيها الحمار
العاطفي، قلت لنفسي.
اقتربت من الجندي: "نعم" بابتسامة ولطف شديد. "من هي التي
كانت معك؟" مظهراً تكشيرة بأسنان صفراء وثياب عسكرية مهترئة وشعيرات أنف
كما لو أنها قرون استشعار. جاوبته بهدوء وحزم: "شو خصّك فيي؟". رفيقه كان
ورائي، وما إن لفظت جوابي حتى كانت البندقية قد خبطت ظهري بقوة وعنف. فيما
كان الذي يستجوبني، أمام كل السيارات والمشاة العابرين، يصفعني بكل عزم. مع
الضربة التي تلقيتها من الوراء اندفعت إلى الذي يواجهني ممسكاً بندقيته،
محاولاً انتشالها من يديه "إما أقتلهم.. وإما يقتلونني. لن أقبل الضرب
هكذا". مع محاولتي نشل البندقية جن جنونهما وازداد الضرب المبرح، وشعرت أن
عظامي تتحطم. ومع قوة الضربات، انهرت على الأرض، فرأيت نفسي بين أرجلهما،
وصرت أشتمهما وأشتم الأسد منزلقاً من بين أقدامهما متحاشياً انهيال
البندقيتين على رأسي. وما إن رأيت نفسي منزلقاً منهما حتى انطلقت راكضاً
بآخر ما تبقى لي من روحي وقوتي. ركضت وركضت منتظراً بيأس أن تخترق رصاصة ما
رأسي أو ظهري، متخيلاً وقوعي متخبطاً بدمي وسط كورنيش المزرعة، رامقاً
مبنى ثكنة الحلو (على مبعدة عشرين متراً فقط) حيث يقبع رجال الشرطة
اللبنانية بلا حول ولا قوة.
عشرون متراً حسبتها لا تنتهي وأنا أسمع خرطشة البندقيتين
استعدادا لإطلاق النار مع صراخهما "توقف". دخلت الثكنة اللبنانية مرتجفاً
من الغضب والفزع، متورماً من الضرب. وكان هذا ثمن الحب في زمن حراس السفارة
الروسية، حراس حروب لا تنتهي، يضعون على قبعاتهم نسراً فولاذياً وعلماً
تتوسطه نجمتان.
0 comments:
إرسال تعليق