بكاتم الصوتكان مهدي عامل مفكراً ماركسياً. كان يحاول تقديم رؤية جديدة للعالم ولبلاده، في شروط عصر كان يضج بأحلام التغيير، ويزدحم بوقائع تصعِّب وتُعقِّد وتعيق تحقيق تلك الأحلام.
لذلك كان فكر مهدي كله نقدياً في أساسه. وكان نقده يطاول الوقائع القائمة، ولا يستثني حتى مشاريع التغيير، بما في ذلك المشروع الاشتراكي ذاته الذي كان ينتمي إلى مرجعيته الفكرية، مرجعية ماركس. لكن مهدي عامل، الذي اغتيل بكاتم الصوت، كان عنيفاً في نقده للطائفية وللنظام الطائفي في بلده لبنان. وكان عنيفاً أيضاً في نقد السلفية الدينية التي كان، ولا يزال، يتشبث أصحابها بالنظام القديم وبكل ما يعيق عملية التقدم في عالمنا العربي، يتشبثون بهذا القديم، باسم فهمهم المشوِّه للدين، الفهم الذي يغيِّب قيم الدين ويتجاوزها إلى نقيضها. وحين اغتال كاتم الصوت الصديق الكبير لمهدي، ورفيقه في الدرب وفي الفكر والمعركة دفاعاً عن حرية الفكر، حسين مروة – ابن الثمانين في فراش نومه-، لم يعبأ مهدي بكل ما جاءه من إشارات كان بعضها صريحاً إلى حدود الوقاحة بأنه، أي مهدي، سيكون الهدف الثاني بعد حسين مروة لكاتم الصوت أو لسواه من أسلحة الاستبداد والظلامية. ولم يلتفت إلى تحذيرات رفاقه وأصدقائه بضرورة التنبُّه إلى ما يحيط به من مخاطر. ولم يشأ أن يغيِّر مكان إقامته، ولا طريق سيره المعتاد من معهد العلوم الاجتماعية كل صباح لملاقاة طلابه. لم يشأ أن يغير أياً من عاداته. إذ كان يعتبر أن مثل ذلك سيكون من قِبَله رضوخاً أمام الخصم في تقليص حقه بالحرية. وظلَّ يمارس نشاطه الفكري بالطريقة ذاتها من دون تعديل. وظلَّ يمارس حياته كما لو أن شيئاً جديداً خطيراً لم يحصل. وظلَّ يواصل انتقاله إلى معهد العلوم الاجتماعية لملاقاة طلابه مشياً على الأقدام، إلى أن اعترضه كاتم الصوت ذات يوم، من داخل سيارة كانت تنتظره في طريقه إلى المعهد. اعترضه كاتم الصوت برصاصات أصابت قلبه الذي كان عامراً بالحياة، وأصابت المركز الذي كانت تختزن فيه أفكاره الجديدة الرائدة. وهكذا غادر الحياة هذا المفكر الماركسي النقدي الكبير، من دون أن يتمكن من الإعلان أنه، لو عاد إلى الحياة من جديد كان سيكمل السير في الطريق ذاته الذي اختاره بوعي لحياته الفكرية والسياسية والشخصية.
القلم الجميلسمير قصير، ابن الخامسة والأربعين عاماً، الذي كان بمثابة الأخ الصغير لمهدي عامل، وبمثابة الابن لحسين مروة في الفكر وفي العمر وفي التجربة وفي السلوك، لم يختلف، في مواجهة الأخطار التي كانت تحيط به وتهدده من كل جانب، لا عن هذين الرمزين الكبيرين من رموز النضال بالفكر وبالسلوك من أجل التغيير، ولا عن أولئك الأبطال الذين ارتبطت أسماؤهم وسماتهم وصفاتهم بالحركة الثورية المناضلة من أجل التغيير في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن الماضي.
كان سمير قصير، منذ مطلع شبابه، يسارياً يحلم بتغيير بلاده في اتجاه التقدُّم، ولم يغيِّر موقعه اليساري قط إلا في الاتجاه الأكثر تحرراً من القديم الذي كان يشيخ، والأكثر تحرراً من اليقينيات التي تعيق التطوير والتجديد. وظلَّ في موقعه هذا، رغم انضمامه إلى منابر لم تكن معروفة بيساريتها، لكنها كانت منابر للدفاع عن الحرية لبلداننا ولشعوبنا وللإنسان الفرد فيها، ضد كل أنواع الاستبداد، أفكاراً وسياسات وأنماط سلوك وأنظمة حكم.
كان سمير قصير صاحب قلم جميل. وكانت أرقى عناصر الجمال في قلمه أفكاره الجريئة، حاملة الرغبة الجامحة في التغيير، الرافضة بحزم لكل أشكال الاستبداد القديم منها والمتجدد. لذلك فقد كانت كتاباته نقدية لاذعة. وكان النقد فيها سلاح المثقف، سلاحه الماضي الكاسر، السلاح المحصن بالشجاعة، والمصوَّب في الاتجاه الصحيح، من دون مهادنة أو مساومة.
كانت كتابات سمير قصير الأولى باسم مستعار في جريدة "النداء" عندما كان لا يزال طالباً في السابعة عشرة من عمره. كان يومها عضواً غير معلن في الحزب الشيوعي اللبناني، في مكان إقامته في منطقة الأشرفية في بيروت، ثم في باريس في مطلع ثمانينات القرن الماضي، واستمر في الكتابة بأسماء مستعارة وبدون توقيع خلال بضع سنوات هي السنوات التي ترافقت مع نضوج شخصيته وتخرّجه من الجامعة. وكان من بين مساهماته كتابة وترجمة مقالات في النشرة التي كان يصدرها مكتب الحزب الشيوعي اللبناني في باريس والتي كنت أشرف على إصدارها بعنوان "لبنان في المعركة". وظل يسارياً في كتاباته، كما نشأ، حتى حين انتقل للكتابة في مجلة "دراسات فلسطينية" في طبعتها الفرنسية. وكان يعتبر مساهمته تلك إسهاماً، من موقعه اليساري، في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وعن المقاومة المرتبطة بها، وذلك باسم المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي، التي كان يعتبر نفسه جزءاً منها، ومدافعاً عن مهمة التحرير المرتبطة بها. وظل ينتقل من منبر إعلامي إلى منبر إعلامي آخر في باريس، ثم في لبنان، بعد عودته النهائية إلى الوطن في أعقاب توقيع اتفاق الطائف، وإعلان نهاية الحرب الأهلية. فكتب في مجلة "الموند دبلوماتيك" الفرنسية، ثم في مجلة "اليوم السابع" التي أنشأتها منظمة التحرير الفلسطينية، ثم في مجلة ثقافية كانت تصدر عن جريدة "الأوريان لوجور"" بتكليف من صاحب الجريدة الوزير مشيال إده ، وصولاً إلى جريدة "النهار" التي حولته مقالاته فيها إلى شخصية ثقافية وسياسية وإعلامية من الدرجة الأولى. وهي المقالات النقدية الشجاعة التي جعلت قوى الظلام والظلامية تضع حداً لحياته.
منتجا الأفكاروكانت قد واجهت سمير قصير قبل اغتياله حملة قاسية من المضايقات والضغوط النفسية من قبل أجهزة النظام الأمني اللبناني –السوري، من أجل إرهابه. لكنه صمد في وجه تلك المحاولات، وعضَّ على جراحه، واستمرَّ في الطريق ذاته الذي اختاره منذ مطلع شبابه. وكان يعرف أن سلوك هذا الطريق مليء ليس بالأشواك وحسب، بل بكل أنواع المخاطر، التي قادت إلى الموت قبله رفاقاً وأصدقاء من المدرسة ذاتها، وحتى من مدارس أخرى، كان المفكر الثاني الشيخ صبحي الصالح أحد ابرز ممثليها. وما أظنه كان غافلاً حين اختار ذلك الطريق، عن رؤية مثل ذلك المصير الذي كان ينتظره. فجاءت العبوة المفخخة القاتلة لتؤكد أن ذلك الاحتمال الفظيع قد تحوَّل إلى أمر واقع. ودخل سمير، مع مهدي عامل ومع آخرين قبله وبعده، وآخرين قبلهما وبعدهما، في قافلة شهداء الحرية، الذين يشكلون أحجار الزاوية في بناء نهضتنا العربية الجديدة والقديمة، المتمثلة بإقامة دولة الحرية والعدالة والتقدم في لبنان وفي سائر بلداننا العربية. وكان على جورج حاوي، رفيق مهدي وسمير، أن ينال المصير ذاته، مع كوكبة من القادة السياسيين والإعلاميين الذين ذهبوا، الواحد منهم تلو الآخر، خلال السنوات الثلاث العجاف التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
كان سمير قصير، مثل مهدي عامل، مثقفاً ينتمي إلى جمهرة كبيرة من المثقفين القدامى والمحدثين، الذين تشكل الأفكار مادة إنتاجهم، وتشكل الكتابة وسائل التعبير عن أفكارهم. كانوا في حقيقة أمرهم، كائنات إنسانية فردية، بحكم طبيعة عملهم، أي كمنتجي فكر أفراد. لكن أفكارهم الحرة، أفكارهم التي كانت تمثل صيغة انتمائهم إلى شعوبهم في نضالها من أجل الحرية والتقدم، جعلتهم كائنات إنسانية جماعيةـ يشكلون بأفكارهم وبمواقفهم الشجاعة جزءاً أساسياً مكوناً من الحركة العامة الرامية إلى صياغة مستقبل زاهر لبلداننا بالمفرد وبالجمع.
كان سمير قصير من ابرز الذين ساهموا في انتقاضه الاستقلال في لبنان. كان رفيقاً دائماً للشباب في ساحة الحرية. لكنه كان يدرك أن الصعوبات والعقبات ما تزال تشكل عوائق لا يستهان بها أمام الوصول إلى المبتغى والمرتجى من الأهداف. وعبَّر في كتاباته عن هذه الحقيقة، تحذيراً منه للشباب من خطر الوقوع في أسر الأوهام. وكان يعرف في الوقت عينه أن هذه الصعوبات والعقبات لن تكون أزلية، وأن شروطاً جديدة ستنشأ في مستقبل قادم، أكثر وضوحاً من الأزمنة السابقة، لمواجهة تلك الصعوبات والتعقيدات. وكان أهم عناصر هذه المواجهة في نظره يتمثل في هذه اليقظة الجديدة لدى الأجيال الشابة للعب دور كانت مغيبة عنه، وكانت هي ذاتها منكفئة عن ممارسته، رغم أنه حق لها وواجب عليها.
كان سمير قصير، في قناعاته تلك، وفي ثقته تلك بالمستقبل، يستشرف، ويحلم، لكنه لم يكن يرى حجم العناصر المعيقة لتحقيق ما كان يحلم به. ولو أنه عاش إلى أيامنا هذه لكان أكثر من النقد الذي كان سيوجهه إلى كل من القوى السياسية التي رفعت شعار الحرية والسيادة والاستقلال وتخلَّت عنه. وأكثر نقداً للأجيال التي عادت إلى انكفائها القديم، بفعل الصعوبات والتعقيدات القائمة والمستجدة. بل أنه كان سيكون أحد المعبرين بوضوح عما ارتبط باسم الثورة التي انطلقت في السابع عشر من تشرين الأول عام 2019.
جسر العبور الصعبسمير ومهدي ورفيقهما القائد الشجاع جورج حاوي، وقبلهم المفكر الكبير حسين مروة، والاعلامي المتميز سهيل طويلة، والمناضل المثابر خليل نعوس، وقائدهم الكبير السابق عليهم في الاستشهاد فرح الله الحلو، والقائد الكبير للحركة الوطنية كمال جنبلاط، جميع هؤلاء الشهداء سيشكلون، باستشهادهم مع سواهم من أبطال الحرية في لبنان، والى جانبهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشهداء ثورة الاستقلال جسر العبور الصعب إلى مستقبل أفضل لوطنهم لبنان، ولو طال المدى.
أتذكر سمير قصير ومهدي وعامل وحسين مروة وجورج حاوي في هذه اللحظة من تاريخنا الذي تعطينا الثورة من أجل التغيير الحلمَ في مستقبل أفضل لوطننا الخالد لبنان. نتذكرهم ونقول لهم دمائهم كانت جسر عبور إلى الحرية التي سيصنعها أبطال ثورتنا المجيدة.
0 comments:
إرسال تعليق