وبالفعل انشدّوا إلى تلك الأجهزة، وما هي إلاّ لحظات حتّى سمعوا البيان الرقم اثنين الذي يقول بالحرف: “لقد استولى عدد من الضبّاط القوميّين الشرفاء على قيادة الجيش ووزارة الدفاع ورئاسة الأركان والمطار والمرفأ والإذاعة. إنّ عهد يهود الداخل قد ولّى وبدأ عهد المجد والعنفوان. الحياة وقفة عزّ فقط. تحيا سوريا ويحيا سعادة”.
هنا بات واضحاً للجميع أنّ ضبّاط الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ استولوا على السلطة بانقلاب عسكريّ. ما فشل زعيمهم أنطون سعادة في تحقيقه عام 1949، حقّقوه اليوم.
البيان الرقم 3 أوضح المزيد: “لقد تمّ اعتقال عدد من الخونة المتآمرين على رأسهم فؤاد شهاب [رئيس الجمهوريّة] وصبري حمادة [رئيس مجلس النوّاب] ورشيد كرامي [رئيس الحكومة] وكمال جنبلاط وبيار الجميّل [وزيرين وقطبين سياسيّين]. إنّ الأمّة ستحاكمهم على الجرائم التي ارتكبوها بحقّها…”.
الخطوة التالية كانت، بطبيعة الحال، اجتماع الحكّام الجدد للتداول في الحاضر والمستقبل القريب. الاجتماع تمّ في مقرّ وزارة الدفاع، فضمّ الضبّاط الثلاثة الذين نفّذوا الانقلاب، أي النقيبين فؤاد عوض وشوقي خير الله والملازم علي الحاج حسن، وكذلك قادة الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ المدنيّين: رئيسه عبد الله سعادة ورئيس مجلس العُمُد محمّد بعلبكي وأعضاء من المجلس الأعلى ومجلس الأمناء هم أسد الأشقر وإنعام رعد والياس جرجي قنيزح ومصطفى عزّ الدين وعبد الله القبرصي.
الاجتماع بدأ بوقوفهم وهم يرفعون أذرعهم اليمنى زوايا قائمة، فيما يهتفون: “تحيا سوريا ويحيا سعادة”، ثم تولّى الكلام عبد الله سعادة: “لقد انتصر العزّ على الذلّ، والمجد على الهوان…”، لكنْ ما أن بدأ حتّى دخل عليهم القياديّ في الحزب بشير عبيد وعلى وجهه علامات هلع: “يا رفقائي، لقد علمت بأنّ الأمور لم تستتبّ للحزب تماماً. المناطق والطوائف تتحرّك ضدّنا”، وخبط شوقي خير الله يده بقوّة على الطاولة: “هل قلتَ طوائف يا رفيق؟ نحن أمّة واحدة لا طوائف فيها. إنّك متأثّر بلغة اليهود والأعداء. طوائف؟ كلّنا مسلمون لربّ العالمين، منّا من أسلم بالقرآن ومنّا من أسلم بالإنجيل ومنّا من أسلم بالحكمة، وليس لنا من عدوّ نقاتله في ديننا وحقّنا وأرضنا إلاّ اليهود… هكذا علّمنا سعادة. أليس كذلك يا رفيق؟”.
“حسناً يا رفيقي، حسناً، لكنْ دعنا نفهم قليلاً ما الذي يجري في الخارج؟”، قال أسد الأشقر، فتشجّع عبيد وراح يشرح: “علمت أنّ شيعة الهرمل المستائين من اعتقال صبري حمادة ودروز الشوف الغاضبين لاعتقال كمال جنبلاط ومسيحيّي الأشرفيّة والجمّيزة الذين ساءهم اعتقال بيار الجميّل وسنّة طرابلس الذين يريدون فوراً إطلاق سراح رشيد كرامي وغيرهم وغيرهم يرفضون نظامنا الجديد. بعض شبّان تلك المناطق نزلوا مسلّحين إلى الشوارع. هناك فتاوى أصدرها رجال دين مسلمون تدعو أبناء طوائفهم العسكريّين إلى الانشقاق عن الجيش. البطريرك المارونيّ ورؤساء الكنائس المسيحيّة كلّهم اعتبروا الانقلاب مؤامرة على لبنان…”.
وتدخّل علي الحاج حسن: “لكنّ الجيش معنا ويستطيع إلحاق الهزيمة بهم جميعاً…”، فقاطعه فؤاد عوض: “لا يا رفيق، الجيش ليس معنا. لقد كذبتُ على القوّات العسكريّة التي زحفتُ بها من صور إلى بيروت، إذ قلتُ لها إنّ كمال جنبلاط احتلّ وزارة الدفاع وأنّ علينا تحريرها. أخشى أن يحوّلوا بنادقهم نحونا بمجرّد أن يكتشفوا الحقيقة”.
وفُتح باب القاعة بقوّة فدخل الشاعر الزجليّ والقياديّ القوميّ عجاج المهتار الذي أصرّ على أن يلقي فيهم آخر زجليّة كتبها عن “ثورة الزعيم اللي انتصرت بعد طول الانتظار”. لكنْ ما إن ألقى ثلاثة أبيات أو أربعة حتّى سُمع صوت رصاص تبيّن أنّ عسكريّين متمرّدين أطلقوه باتّجاه القاعة التي يجتمع القادة القوميّون فيها. لقد أصيبت بعض النوافذ التي اخترقتها رصاصة استقرّت قريباً من رأس إنعام رعد.
“نحن في خطر”، قال مصطفى عزّ الدين. “قلتُ لكم أنّ الجيش ليس معنا. إنّه مع فؤاد شهاب”، علّق فؤاد عوض. هكذا اغتنم عجاج المهتار الفرصة ليلقي عليهم بيته الزجليّ المفضّل: “نحنا الأمّة ونحنا الجيش ونحنا سيوف الاستقلال”. لكنّ إنعام رعد، الذي أصابته الرصاصة بالذعر، صرخ في المهتار: “كسّ أخت الأمّة… هلّق مش وقتها. حياتنا بخطر يا رفيق”. شوقي خير الله شبك كفّيه وقرّبهما إلى صدره كما أغمض عينيه وانكفأ على نفسه: “اغفر لهم يا زعيمي، إنّهم لا يدرون ماذا يقولون”.
هدأ الرصاص على نحو أوحى أنّ المؤيّدين للانقلاب أسكتوا مصادره. عبد الله سعادة حاول أن يعاود السيطرة على الوضع بوصفه رئيس الحزب: “علينا يا رفقائي أن نفكّر بالمستقبل. العثرات الصغيرة على الطريق لا بدّ منها، لكنّها ينبغي أن لا توقف مسيرتنا. السؤال المُلحّ الآن: كيف نؤسّس سلطتنا الجديدة؟”. محمّد بعلبكي أبدى رأياً وافقه فيه إنعام رعد ومصطفى عزّ الدين: “لماذا لا نتّصل بالزعماء المناوئين للشهابيّة ككميل شمعون وصائب سلام؟ هؤلاء قد يوفّرون لنا بعض الغطاء الطائفيّ الذي نحتاجه”. وجه شوقي خير الله امتقع اعتراضاً على الاتّصال بزعماء طائفيّين، لكنّ عبد الله سعادة وأسد الأشقر اغتنما الفرصة: أوّلهما بادر إلى الاتّصال بصائب سلام الذي رفض الإجابة عن مكالمته، والثاني اتّصل بكميل شمعون الذي وبّخه لاعتماد وسيلة غير شرعيّة لا يرتضيها المسيحيّون هي الانقلاب العسكريّ.
“لكنّنا حلفاء يا فخامة الرئيس، قاتلنا معاً قبل ثلاث سنوات ضدّ عبد الناصر”.
“نعم، لكنّكم قاتلتم في ظلّ الأرزة، والآن تريدون أن تحكموا في ظلّ الزوبعة”.
بانتهاء المكالمة القصيرة، اقترح فؤاد عوض تكليف فوزي القاوقجي رئاسة الحكومة، فصرخ بعلبكي: “هذا رجل لا يعرفه أحد في مدينته طرابلس. نريد أشخاصاً يضيفون قوّةً إلى قوّة الحزب ولا يستمدّون قوّتهم من قوّته”.
“لكنّ القاوقجي هو الذي قاد جيش الإنقاذ في فلسطين، يا رفيق محمّد”.
“هذا ما لا يذكره أحد، يا رفيق فؤاد. أنا نفسي نسيت هذا الاسم وهذا الموضوع الذي يرجع إلى 1948… أرجوك أن تفكّر بأسماء أخرى”.
“ما رأيكم بتسمية فؤاد لحّود رئيساً للجمهوريّة؟”.
هنا تدخّل أسد الأشقر: “أنا ابن المتن وأعرف منطقتي عائلةً عائلةً. الشخصان القويّان في آل لحّود هما سليم وجميل، أمّا فؤاد فلا يقبضونه جدّاً”.
وكسراً للوجوم السائد، فيما تتتابع أخبار انتفاضات الطوائف وانشقاق الوحدات العسكريّة، كانت لإلياس جرجي قنيزح مداخلته: “لقد لاحظتُ أنّكم طرحتم اسماً مارونيّاً لرئاسة الجمهوريّة واسماً سنّيّاً لرئاسة الحكومة. هذه مخالفةٌ خطيرة لروح العقيدة وسقوطٌ في مستنقع الطوائف. علينا أن نتسامى إلى مستوى التعاليم التي علّمنا إيّاها الزعيم أيّها الرفقاء”.
وفيما سأله “وكيف نتسامى ونحن في هذه الورطة؟”، كان إنعام رعد يركّز عينيه على عجاج المهتار متخوّفاً من أن يصدح بزجليّة أخرى تحضّ على التسامي وتشتّت التركيز. عجاج لم يفعل، لكنّ قنيزح أجاب: “علينا أن نقلب الطاولة على الطوائف بأن نحوّل النقاش إلى نقاش فكريّ حضاريّ على النحو الذي يليق بأحفاد نبوخذ نصّر وأرتحششتا وسعادة. فلنحدّثهم عن الدولة القوميّة التي نريد أن نبنيها. عن نيّتنا تحرير فلسطين والإسكندرون وقبرص. عن نظريّة القيمومة في الاقتصاد. عن نظريّة المدرحيّة في الفلسفة. إنّ شعبنا العظيم سوف…”. لكنّ تعبير “شعبنا العظيم” استفزّ فجأة عبد الله سعادة:
“هيدا شعب خرى مش عظيم. مرافقي رياض درويش كان يتجسّس عليّ لضابط المكتب الثاني سامي الشيخة. رفيقنا من الشام فضل الله أبو منصور كان يتجسّس علينا للضابط الآخر سامي الخطيب. أيري بهالشعب عن بكرة أبيه. وبعدين يا رفيق الياس، من كلّ عقلك رح يوقَف الشعب معنا إذا حكينالو عن المدرحيّة والقيمومة، أو إذا قلنا أنّو بدّنا نحرّر فلسطين والإسكندرون وقبرص؟ وين عايش يا الياس؟”.
وبضحكة ساخرة دخل عبد الله القبرصي على الخطّ: “يعني فوق كلّ خَرانا، يا رفيق الياس، رح نحطّ بضهرنا دَفعا وحدي إسرائيل وتركيّا واليونان، يعني الحلف الأطلسي! ومن جهة تانية، الشيوعيّين بيكرهونا وبيعتبرونا عُملا الإنكليز، وعبد الناصر بيعتبرنا عُملا الملك حسين. والله كملت معنا. هيك كتير”.
“مش ماشي الحال يا رفقائي”، قال إنعام رعد المرتبك والمذعور، فيما كانت تعود زخّات الرصاص بقوّة أعلى كثيراً من المرّة السابقة.
“لكنّنا سيطرنا على وزارة الدفاع ورئاسة الأركان والمطار والإذاعة…”، قال أسد الأشقر بخطابيّة مؤثّرة، فيما كانت أعداد لا حصر لها من العسكريّين والمدنيّين تتدفّق على وزارة الدفاع وتحاصرها. بعض المدنيّين جاؤوا بأسلحتهم، وبعضهم كانوا يرفعون صُور شهاب وكرامي وجنبلاط والجميّل وحمادة.
محمّد البعلبكي تساءل بتوتّر: “كيف عرفوا بهذه السرعة بالانقلاب؟”، أجابه أسد الأشقر: “أنا لم أُخبر أحداً سوى تسعة أشخاص كانوا يزورونني، وهم من أشرف الناس وأخلصهم. هؤلاء كانوا يصوّتون لي دائماً في الانتخابات ويقولون لي: بعد عمر طويل، ستنتقل زعامة المتن إلى نجلك غسّان، أو نجلك نظام، أو كريمتك نضال. كيف لا أُخبر أمثال هؤلاء بأنّنا سنقلب نظام الدهاقنة قريباً ونقيم النظام القوميّ الاجتماعيّ؟”. وبدوره قال عبد الله سعادة: “أنا أخبرت خمسة فقط، هم أيضاً من المواطنين الشرفاء الذين ينتخبونني كلّما ترشّحت للانتخابات في الكورة، مع أنّهم ليسوا حزبيّين”. وكما لو أنّه ينفي عن نفسه ايّ اتّهام، أعلن عبد الله القبرصي أنّه نفّذ الأوامر الحزبيّة بإخبار سبعة نوّاب وسياسيّين سبق للحزب أن فكّر بالتعاون معهم بعد نجاح الثورة، مضيفاً: “لم أخبر أحداً غيرهم”.
وفجأة هتف شوقي خير الله: “فليعلم بأمر ثورتنا من يعلم. هذا ليس مهمّاً لأنّ انتصار قضيّتنا هو كالقضاء والقدر. الشجاع وصاحب الحقّ لا يخشى انكشاف الأسرار. فليواجهنا الطائفيّون وجهاً لوجه. هم معتادون على الغدر ونحن لا نغدر. ليفعلوا ما يشاؤون، فالطائفيّة مهزومة سلفاً، لا مكان لها في أمّتنا”. لكنّ الآخرين تركوا خير الله يتحدّث كما لو أنّه يهذي ومالوا بأعناقهم نحو مصدر الصوت الأعلى، صوت الضابط الذي كان يقتحم القاعة ويصرخ بهم: “سلّموا أنفسكم ولاه، وبلا هالطقّ الحنك. يلاّ ولاه امشوا قدّامي… ع الحبس فوراً”.
هكذا كان، وهكذا انتهت قصّة انقلاب سريع.
0 comments:
إرسال تعليق