الثلاثاء، مارس 03، 2020

لبنان ما بعد الانهيار

لبنان ما بعد الانهيار لن يكون أبداً كما قبله. نحن لن نكون كما كنا سابقاً، أسلوب حياتنا، تقاليدنا، عاداتنا، رفاهيتنا. كل ما اعتدنا عليه طوال سنوات، اعتبرناه تحصيل حاصل، عصياً على الكسر، بات علينا وداعه، ولربما في ذلك خير لنا. ربما أتى الانهيار ليعيد توجيهنا نحو حياة أكثر صحية.

بداية، علينا وداع رفاهية البطالة. في الجنوب، كلما ذهبت الى القرية، هناك دائماً شبان يتمتعون بتلك الرفاهية، يسهرون حتى الصباح، يدخنون النارجيلة، يلعبون الورق أو pubg، ينامون حتى وقت متأخر من النهار، يضربون بعرض الحائط  تذمر أهلهم المستمر من بطالتهم. كان يكفي أحدهم أن يعمل ليوم واحد أو يومين، أسبوعياً، من أجل ثمن السجائر وملء دراجته النارية بالوقود. لم تكن حياتهم ذات نوعية عالية، إلا أنهم كانوا يعيشون، لديهم هواتفهم الحديثة وبيوت أهلهم مع ما تقدمه من الطعام.

أسألهم: لم لا تعملون؟
يجيبون: وماذا نعمل؟
تقول لهم: لدى أهلك أرض، إزرعها، اشتغل بطلاء المنازل، بالبناء، بالنجارة أو السنكرة.

يسخرون منك، هذه الأعمال لا تناسبهم، أعمال تليق بالعمال السوريين فقط. أما هم، فإما أن يحصلوا على العمل الذي يليق بمقامهم، في التجارة أو إدارة مطعم، أو أن تمنّ عليهم حركة أمل أو حزب الله بوظيفة في الدولة. عدا ذلك، البطالة أشرف لهم. حتى أنهم مؤخراً باتوا يتدللون على وظائف السلك العسكري، لا مشكلة لديهم في الانضمام إلى أمن الدولة أو الأمن العام، الجيش: لا، الجيش عمل شاق. الأمن الداخلي: يفكرون في الموضوع. يقبلون، شرط التحاقهم بشرطة المجلس النيابي مثلاً، حيث يداومون يوماً ويقضون الباقي في أحضان المقاهي أو ربما لا يداومون أبداً. يريدون مهام تافهة، مثل الإهتمام بحديقة أحد النواب، يشذبون الورد مرة في الأسبوع.

الانهيار لن يسمح برفاهية البطالة. لن يتحمل الأهل عضواً غير منتج في العائلة. ومع انهيار سعر صرف العملة وغلاء الأسعار، لن يكفي يوم عمل واحد أسبوعياً لشراء الوقود والسجائر، سنحتاج لأكثر من ذلك، سيضطر الجميع للعمل والانتاج، وإلا فالفقر لن يرحم.

كانت لدينا رفاهية المنازل الواسعة. حلم كل لبناني بأن يمتلك منزلاً، وهذا حقه. بعد حرب تموز خصوصاً، والفورة العقارية في لبنان، بدأت الأسعار ترتفع بشكل جنوني. كنا نرى في بيروت والضاحية الجنوبية، إعلانات عن شقق تبدأ مساحتها بـ200 متر مربع، وترتفع إلى 250 أو 300 متر، وكان الجميع يشتري. اختفت الشقق الصغيرة. كنت أفكر: ما حاجتي لشقة كبيرة، طالما تكفيني 100 متر مربع من المساحة؟ في الجنوب أيضاً، كان القطاع العقاري في أوجه، غلاء في أسعار مواد البناء وأسعار الأراضي. مع ذلك، كنا في الجنوب نبني منازل كبيرة، دوبلكس، سوبر دوليكس. الانهيار لن يسمح بهذه الرفاهيات. سنتحول إلى استئجار الشقق عوضاً عن  الشراء، وسيبدأ الجميع بالتوجه نحو الشقق الصغيرة التي تكفي حاجته. سنوفر كل متر مربع نستطيع توفيره.

كلما جمع أحدنا رأسمال معين، وقرر الانطلاق بعمل ما، كان يسمع مقولة "الطعام دائماً يربح". كانت المطاعم  تتكاثر باضطراد. بين المطعم والمطعم، تجد مطعماً افتتح أبوابه مؤخراً، وكانوا جميعاً يجنون الأرباح. الطعام المنزلي بات يندثر شيئاً فشيئاً. اللبنانيون يأكلون في الخارج وإذا أرادوا تناول الطعام في المنزل، طلبوا الدليفري. مع الانهيار، ترتفع أسعار المواد الغذائية واللحوم، ستسعى كل عائلة إلى الإقتصاد في المصروف وتفضيل الطبخ على الطعام الجاهز.

كان لدينا نمط حياة أكثر من أوروبي، ولو أننا كمواطنين لا نتحمل مسؤوليته. لا نتحمل مسؤولية عدم وجود نقل عام حديث، لكن وجود أربع سيارات حديثة في العائلة الواحدة يعدّ رفاهية. أن ينتقل مواطن من تلة الخياط  إلى شارع الحمرا، بسيارته، يعد رفاهية. لدينا أحدث الهواتف وأحدث السيارات وثياب من ماركات عالمية. وعند الزواج، نقيم حفلة للخطوبة، وعرساً مترفاً، ونأتي بمصور فوتوغرافي محترف، ونشتري الورد للكنيسة. لدينا رفاهية إنفاق آلاف الدولارات على الأعراس. قال لي صديقي الذي يملك استديو للتصوير الفوتوغرافي في الجنوب: لا أحد يتزوج هذه الأيام، القلة الذين يقدمون على الزواج لا يستأجرون صالات الأعراس، يكتفون بحفلة صغيرة يستثنون منها المصوّر.

الانهيار لن تكون له نتائج سلبية فقط، بل إيجابيات أيضاً. سنعرف الآن كلبنانيين أن علينا العمل بجد للحصول على الرفاهية، ككل البشر في العالم. مع غلاء أسعار الوقود والسيارات، سنطالب بنقل عام. سنتجه للطبخ عوضاً عن الأكل في المطاعم. سنقيم حفلات زفاف متواضعة، تشبهنا. سنسكن منازل تكفي حاجاتنا من دون إهدار آلاف الأمتار المربعة. سنعرف أخيراً قيمة القرش. من عاش أيام التسعينات من القرن الماضي؟ من يذكر أيام التسعينات؟ أنا أذكرها. تقول امرأة جنوبية: كنا عايشين على قدّنا.

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية