رهن الشيعية السياسيةالشيعية السياسية يقودها اليوم ثنائي حركة أمل وحزب الله، ويختزل الثنائي الكتلة الشيعية الأوسع، قولاً وتمثيلاً وحضوراً في المعادلة الداخلية. ميزان القيادة، أو موقع القرار والحسم فيها، يتحكم به حزب الله منذ انتهاء الصراع الدامي بين طرفي الثنائية، ومنذ وضع اليد السورية على الملف الشيعي، بعد المصالحة التي تلت معارك سيطرة الثنائية على كتلتها الأهلية. لقد دخل النفوذ السوري ليحسم بأولوية وبأسبقية مصالحه على النفوذ الإيراني، وكان أن سلمت السياسة الإيرانية بالحسم الأسدي، فارتضت مشاركته من موقع الدرجة "الثانية"، وكان أن أدار الشريكان حرب التحرير اللبنانية وفقاً للأولويات السورية أولاً، وبما لا يتعارض مع الأولويات الإيرانية ثانياً، وهكذا، وعندما دقت ساعة التحرير عام 2000، كانت قد جرت مياه كثيرة أخذت في مجراها الشطر الأوسع من وزن حركة أمل، ولم يكن "للجرف" أن يذهب بمعظمه إلا إلى حوض حزب الله الذي كان وما زال جاهزاً لهذا الاستقبال. التطورات والتحولات التي تلت محطة العام 2000، كرّست حزب الله لاعباً أول ضمن الشيعية السياسية، وتوظيف مهمة مقاومة الاحتلال في السياسات الداخلية، عاد بجنى وخير للحزب، في الداخل وفي الخارج العربي الشعبي، لكن تثمير الحزب لانتصاره بدأ يسلك مساراً معاكساً لصعوده، عندما أعلن مسؤولو الحزب اللبنانيون أنهم جزء من محور مقاوم مركزه في طهران، وعندما تعاقب مسؤولون إيرانيون على الإعلان، أن العاصمة اللبنانية بيروت، هي واحدة من العواصم العربية التي يستوطنها النفوذ والقرار الإيراني.
مسار الشيعية المعاكسلقد سلكت الشيعية طريقاً سياسياً ناهضاً بعد نيل الاستقلال عام 1943، وهي وضعت، بتدرج، جانباً التاريخ الفاصل بين عام إعلان ولادة لبنان الكبير سنة 1920، وبين عام استواء لبنان كمشروع وطن سبق المشاريع الوطنية لعدد من البلدان العربية. نهوض الكتلة الشيعية المتوالي، نقلها من كتلة طرفية في الكيانية اللبنانية، إلى كتلة مركزية ضمنها، وقد تسنّى لهذه الكتلة ذلك، بعد ما حققته من مكاسب في المجالات الوطنية اللبنانية العامة، من الاقتصاد إلى الثقافة إلى السياسة إلى التعليم، وإلى تطوير حصة مساهمتها في الناتج الوطني الإجمالي العام، وإلى الانخراط في الدفاع عن لبنان في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وفي مواجهة الأحزاب اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، التي رأى فيهما شطر واسع من الكتلة الشيعية، انتقاصاً من "كينونة" الدولة، وتعدّياً على توازناتها. وكما هو معلوم، شكّلت حركة أمل، مع كل الالتباسات التي أحاطت بها بعد غياب السيد موسى الصدر، رأس حربة الشيعية في مواجهتها "للقوات المشتركة"، اللبنانية الفلسطينية.
أهم علامات النهوض والتقدم صوب معادلة الدولة – الداخل، قادها الإمام الصدر، الذي طالب بإنصاف "المحرومين" ومنهم الشيعة، وجعل وجهته الدخول إلى الدولة، وليس الخروج منها أول عليها...
هذه النهضة تسارعت خطى الارتداد عليها بعد إنجاز التحرير، الذي شكّل وعلى وجوه كثيرة، إضافة استقلالية إلى لبنان، لكنّ هذه الإضافة تمّت بعثرتها عندما تقدم مطلب الاحتفاظ بالسلاح على مهمة إعادة بناء الدولة، وعندما رُبط هذا السلاح بمهمة خارج سياق التحرير اللبناني، وخارج المصالح الوطنية اللبنانية العامة. بعد النهوض صار التحرير فئوياً، وصار الحضور المشروع في الشراكة الوطنية ممارسة فئوية، وصار الدفاع عن الدولة قفزاً فوق سيادتها، وتجاهلاً لضروراتها ومقتضياتها. لقد كان من شأن ذلك أن يساهم في اختلال البنيان الوطني وفي اعتلاله، وإذا ما أعدنا الاعتبار إلى النشأة الكيانية المعتلّة في أصلها، والمصابة بمعضلات وأمراض تكوينها، إذا فعلنا ذلك، نجد من الضروري القول أن ارتداد الشيعية الناهضة على أعقابها، وتحولها إلى ظاهرة طافرة بعد أن قيّض لها أن تكون ظاهرة ظافرة، فاقما العلل الأصلية، وساهما في إعادة استنبات ما هو ضار منها، وما زالا يمعنان في كتابة نصّ ضرر إضافي، إلى مجمل الضرر الأصلي الذي تحمله البنية اللبنانية.
نقاش مفتوحالصعيد البنيوي للكتلة الشيعية مفتوح على نقاش مُشرَع ومشروع، وهذا يستحضر ضرورة وإمكانية الحديث على خط شيعي ثالث يعيد تعريف المصالح الخاصة بالشيعية، من ضمن منظومة المصالح العامة لباقي الشركاء اللبنانيين. هذا الحديث يتضمن من جملة ما يتضمن، معاينة الخسارة التي ألحقتها القيادة الثنائية الشيعية بالمصالح الوطنية العامة، وبالمصالح الشيعية الخاصة، ودائماً على مستوى الشرح البنيوي، وعلى مستوى المعاينة الوطنية التفصيلية. كذلك يتضمن "الثالث" الشيعي قراءة الظرف اللبناني الراهن، ومسألة الوطنية اللبنانية الحالية، ومسألة التوازنات الداخلية، ومسألة إعادة صياغة تسوية مشاركة لبنانية مفتوحة على تسويات مستقبلية، من ضمن سياق تطور وتطوير سياسي هادئ، لا يستحضر لغة الحروب الأهلية، ويستبعد عناصر التفوق السلاحي الآني والعابر، مثله مثل كل تفوق عابر غابر، ظنَّ أصحابه أنهم أمسكوا، وإلى الأبد، بمفاتيح القرارات اللبنانية.
على صعيد مباشر، يجب السجال ضد شعارية المقاومة، بعد أن انتفى أساسها المادي، وتوجيه العناية إلى موضوع الصراع العربي الإسرائيلي ودور لبنان فيه، كذلك السجال ضد كل مقولات وأسباب التدخل في الصراعات الخارجية، وفي هذا المجال ليس مسموحاً التخوين من جانب الثنائية الشيعية، مجتمعة أو منفردة، وليس مسموحاً أيضاً شطب كتلة أهلية وازنة بجرّة نزعة مذهبية مناوئة، أو اختزال تاريخ هذه الكتلة بالمشهد المسلح الراهن الذي أخذه إليها من تولّى زمام أمرها.
الشعار اليوم هو الدفاع عن لبنان. هذا الدفاع شأن وطني عام ينبغي خضوع الجميع لمقتضيات صناعته. أول الدفاع عن لبنان، الخروج من كل مستنقعات حروب المنطقة، وأول السيادة إعلان أن "وليّ أمر" اللبنانيين كلهم هو القرار الوطني اللبناني المستقل، الذي لا يتبع لخارج، ولا يستتبعه أي خارج. استطراداً، أو ختاماً، ليست الخارجية سياسة فئة لبنانية دون غيرها، لكن الخارجية الأوضح الآن، هي خارجية أهلية شيعية، يقودها حزب الله، وعليه فإن عودة الحزب إلى دياره يجب أن تكون نقلة في سياق التصدي لمعضلة كل الخارجيات اللبنانية.
0 comments:
إرسال تعليق