ولمن لم يعرف، فقد "ظهر" مار شربل لفتاة لبنانية، وطمأنها إلى أنه سيحمي لبنان من الكورونا، وطلب منها أن تذهب إلى مزاره/قبره في عنايا لتستحصل على بعض التراب وتغليه وتصفيه، ثم تأخذ هذه المياه "الشافية" إلى المرضى فى المستشفى الحكومي. وحين فعلت، رفض الطبيب الذي قابلته تسلّم قنينة المياه، طبعاً للدواعي الطبية البديهية (والتحية واجبة لهذا الطبيب على مناقبيته). وهكذا، بات الموضوع قضية، في "أو تي في" وموقع "تيار.اورغ"، وغيرهما. والموضوع يتصاعد بـ"أخبار" عن مطالبة مصابين بكورونا في المستشفى، بالحصول على قنينة المياه هذه، بعدما عرفوا بالقصة. فهل يستجيب المستشفى لمطالب مرضاه، أم يلتزم الإجراءات المعمول بها في أي مستشفى على سطح الكرة الأرضية؟.. ثم جاء خبر مُقلق، إن صحّ، عبر موقع "النشرة"، الذي أورد أنه "اتصل بمدير المستشفى، فراس الأبيض، الذي طلب أن تعاود الفتاة الحضور وتضع الزجاجة في مكتبه وهو مستعد لاستلامها، على أن يعطي منها لمن يرغب من المرضى".
المسألة صارت تعني طائفة، صورتها، هويتها، وجودها، رموزها. الملف الصحي، بل ملف الأمن القومي الصحي، ليست استثناء. لا يختلف عن محاصصات الدولة والخطاب التحشيدي في مهرجانات سياسية ودينية، والمظلوميات الممنهجة في سياسات.. رغم كونه، بالتعريف، عابراً للجماعات، إنسانياً، كَونياً. الطب والعِلم قد يواجهان أعتى فيروسات العالم، إلا لوثة الـ"نحن" والتهابات الأسطورة المؤسّسة والممأسسة.
الخرافة لا تكفّ عن الإدهاش، مهما كانت متوقعة. ولخرافاتنا فرقعة أكثر إبهاراً، منها في أي مكان في العالم.. حتى ولو كان البيت الأبيض، حيث أقام نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، صلاة مع فريقه، لدرء خطر الكورونا عن بلاده. فهناك، إدارة برئيس محافظ، نزق، محدود المخيلة والفكر. لكنه قوي بالفعل، وبالقول والفعل يسخر منه، يومياً، جزء معتبر من مواطنيه. أما قوتنا نحن، ففي خرافاتنا، الملوّنة، المبهرجة، المدوية. تلك التي تستبطن، كما يجدر بها أن تفعل، ما هو أكثر وأعمق من أدياننا. سياستنا وصراعاتنا وسائر شياطيننا. في السلطة، كما في الشارع والبيوت والمؤسسات.
مار شربل، تنتشر صوره في مواقع التواصل الاجتماعي، للقول بأنه "معنا" وسيحمي لبنان. حتى الفتاة المُلهمة، التي حملت مياه ترابه إلى المستشفى الحكومي، قالت إنها دخلت قسم عزل الكورونا ولم تخَف، فمار شربل معها. والآن، تستنكر القناة المسيحية "الأولى": ما هكذا يُعامل مار شربل!
كأن طائفة بأكملها مُنعت من دخول المستشفى في لحظة حرجة. كأن مار شربل نفسه، هو شخص، مواطن، مُهان وحقه سَليب. كأن معجزاته حقائق وأحداث، ينقلها الإعلام "المحترف"، مؤكداً أنها ليست شائعات. كأنه مقام القديس الذي لا يُساءل، مثل رئيس الجمهورية. أم أن رئيس الجمهورية مثله؟ كأن مستشفى رفيق الحريري سحبت صلاحيات شربل، فتبّاً - في كل مناسبة وبلا مناسبة - لاتفاق الطائف.
ومن بعد "أو تي في"، نرى كيف ينقل الإعلام اللبناني، الحدث، بموضوعيته. ويحار المرء في الضحك أو البكاء. "إم تي في" تنقل خبر "إصابة أول مريض كورونا في شرق بيروت (كسروان)". ومراسلها آلان ضرغام يغرد عن "اللبناني الأول من خارج البيئة الشيعية يصاب بفيروس كورونا". القصد "الشريف"، ربما، هو الإشارة إلى أن هذا المريض عاد من القاهرة، حيث من الواضح أن السلطات المصرية تكذب بشأن انتشار الكورونا على أراضيها، وأن على الدولة اللبنانية التعامل مع هذا النوع من الالتفاف، وليس فقط مع المناطق المثبتة مثل إيران والعراق والصين وإيطاليا وغيرها. لكن اللغة الإعلامية اللبنانية شخصيتها قوية، مؤمنة بقوالبها الأزلية، قوية الإيمان. لا تنحدر إلى منطق أسماء البلدان وأرقام الإحصاءات ودلائل كذب السلطات. بل تلتزم تغطية كورونا لبنان بالمصطلحات المناسبة: "شرق بيروت" و"البيئة الشيعية".
إيران.. لبنان
من مدن إيرانية عديدة، خرجت فيديوهات تظهر أشخاصاً يصرون على لعق أسيجة المقامات الدينية، رغم تفشي الكورونا، بل نكاية بالوباء، وقيل لاحقاً إن السلطات قررت اعتقال اللاعقين. لكن الخرافة هناك ترتقي إلى مستوى الدولة، حاجبة الأرقام وصور جثث الكورونا، والمتمسكة بتلابيب المؤامرة الأميركية.. وملاليها الذين رفضوا إقفال المزارات الدينية. الأساطير تحكم، تتسلط، تتربّح. والدِّين العميق لا يهدده خطر، بل لعله هو الأخطر من الوباء. هكذا جعل "حزب الله" مطلب وقف الرحلات من إيران وإليها، أقرب إلى اعتداء عليه، وأبلسة لمرجعياته ومناسك المجتمع الذي نصب نفسه وليّاً لأمره.
لكن ظاهرة ملفتة خرجت رغماً عنه: الشيعة يدافعون عن أنفسهم.. بالتمرد الخفر، والنكتة. ففي الآونة الأخيرة، انتشرت عبر "واتسآب" تسجيلات، يصعب التحقق ما إذا كانت حقيقية أم تمثيلاً، لكن المؤكد أنها تعبّر عن جو داخلي، يخرج من بيئته للمرة الأولى ربما. رجل يرفض الذهاب في رحلة لزيارة الأماكن المقدسة في إيران، رغم نيله الموافقة والتأشيرة، بمساعدة "الحاج". وامرأة ترفض استقبال أحد القادمين من المناسك نفسها، رغم قوله إنه يحمل لها من إيران أمانة من إحدى قريباتها. "حلّوا عني، انا مش بالبيت، بتكفيني أمراضي"، قالت المرأة. و"أنا مشغول جداً هذه الأيام، ما بدي روح يا خيي، انت وقّع، نيابة عني، التنازل عن الطلب"، قال الرجل، فيما "الحاج" يدعو له "الله يهديك". لا المرأة، ولا الرجل، الخائفان من أي احتكاك بالعائدين من إيران، عبّرا صراحة عن مخاوفهما، ولا عاندا "الحاج" المزعوم بشكل مباشر. تهذيبهما ومواربتهما أظهرا أن الامتثال لم ينتفِ، لكنه صار يقف عن حدّ. قصدهما كان واضحاً، فهمه "الحاج"، وأضحكت مفارقته المئات ممن تلقوا التسجيلين على هواتفهم. فالخوف البشري أعقل من طمأنينة السماء وأطبائها. الخوف من كورونا، ثورة أيضاً، على السلطة، مهما بلغت بلطجتها في إسكات مناوئيها. الإيرانيون أيضاً يثورون، بالكورونا ومن قبله، لكننا لا نعلم من نبضهم إلا الاعتقالات، وفتات ما يفلت من قبضة إعلام خامنئي.
لعل الثورة لم تصل إلى الكانتون العوني، لأن الكورونا ما زال في الطريق. بعد "الإصابة الأولى في شرق بيروت"، ربما يتغيّر الوضع، ولا تعود قضية مار شربل قضية إساءة معاملة، في مستشفى رفيق الحريري، حيث المرضى من "البيئة الشيعية".
0 comments:
إرسال تعليق