"
عربي علم است، فارسي شكرست" أي العربية علم، والفارسية حلاوة. قول إيراني مأثور. جيران ولكن بعيدون عن بعضنا البعض. هكذا كان حال العلاقة بين العرب والإيرانيين منذ قرون طويلة، علاقة متداخلة فيها الكثير من المشتركات، وفيها أيضاً ما ينفر ويبعد ويبني الأسوار.
يكرهوننا ونكرههم. هكذا صرح الدكتور “صادق زيباكلام” معللاً الكراهية بالنظرة الإيرانية المغموسة بمرارات التاريخ نحو العرب. يقولها صريحة: "يبدو أننا كإيرانيين لم ننس بعد هزيمتنا التاريخية أمام العرب ولم ننس القادسية بعد مرور 1400 عام عليها، فنخفي في أعماقنا ضغينة وحقداً دفينين تجاه العرب وكأنها نار تحت الرماد قد تتحول إلى لهيب كلما سنحت لها الفرصة".
قرب وكره، مشاركة وعداء وصراع لم ينته منذ قرون. يظهر في الاشتباك السياسي والعسكري بالوكالة في أرجاء متعددة من الوطن العربي. هذه العلاقة المتوترة منذ قرون يشترك في أسبابها الطرفان، فالعرب والإيرانيون لا يزالون يعيشون في التاريخ بأكثر مما يجب، وبأعمق مما هو صحي لأية أمة.
يقول العرب إن الإيرانيين متعالون، لا يريدون نسيان إمبراطوريتهم الفارسية التي تحطمت على يد العرب المسلمين في القرن السابع الميلادي. ويقول الإيرانيون إن العرب صدّروا إليهم تخلفهم وأعاقوهم عن التقدم باحتلالهم لأراضيهم ومحاولة مسخ هويتهم الفارسية التي تمتد لآلاف السنين. المحصلة واحدة، كراهية من الجار لجاره ما زالت تستعمل وقوداً يشعل حروب المنطقة السياسية- الطائفية.
"لا أنكر أن هناك أدبيات قديمة في التراث الفارسي معادية للعرب. لكني أعتقد جازماً أن ما نراه الآن من كراهية تجاههم هو محصلة المشروع البهلوي في إعادة إحياء القومية الفارسية على حساب القوميات الأخرى"، يقول الدكتور آرانك كيشفارزيان الأستاذ المساعد في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك في رده على أسئلة رصيف 22. ولا يقصر د. آرانك هذا التصاعد في الشعور القومي على الإيرانيين وحدهم، بل يشخص نفس الحالة عند العرب أيضاً. ويضيف عوامل أخرى إلى أسباب الكراهية المتبادلة، مثل الجهل بالآخر وقلة الاحتكاك بين الشعوب وثقافة العيش في شرنقة الصراع التاريخي.
يحدد د.آرانك صورة العرب في الذهنية الإيرانية بالعلاقة مع العراق، فهو "واجهة العرب بالنسبة لإيران، فالإيرانيون لا يعرفون عن مصر مثلاً أو الشعوب العربية الأخرى بقدر ما يعرفون عن العراقيين بسبب القرب الجغرافي وتاريخ البلدين". وبما أن الصراع بين إيران وقوى أخرى في المنطقة، مثل العثمانيين، شغل حيزاً مهماً من تاريخ العراق، يمكننا أن نفهم هنا إشكالية العلاقة العربية- الإيرانية وتعقيداتها.
إن استخدام التاريخ للتعويض عن الفشل الحاضر سمة يشترك فيها الإيرانيون والعرب. تنظر الذهنية الإيرانية إلى مجد الدولة الساسانية، وتتخيل أن إيران (فارس) كانت ستبقى قوة عظمى في المنطقة في الوقت الحاضر، لولا غزوات البدو القادمين من مجاهل الصحراء العربية. ويرى العرب الفرس كطابور خامس في الدولة العربية الإسلامية، ما فتئ يحيك المؤامرات ويشعل الفتن، مستعيدين نماذج كالبرامكة وابن العلقمي.
يمكن لنا أن نلخص أهم العوامل التي تسهم في تغذية المشاعر السلبية بين الأمتين فيما يلي:
المذهبية
تحولت إيران إلى المذهب الجعفري في القرن السادس عشر على يد اسماعيل الصفوي. استعملت ورقة النزاع الطائفي بين الشيعة والسنة منذ ذلك الوقت في صراع النفوذ بين العثمانيين والصفويين، وأضحت أرض العرب (العراق) مسرحاً له واختزن تاريخها الكثير من مآسيه وتبعاته. حتى يومنا هذا، تنظر الغالبية العربية السنية إلى إيران بنفس الشك والريبة التي كان ينظر بها العثمانيون إليها. وربما كان لاختلاف التوجهات السياسية أثر في تغيير مسار الريح بين العرب والإيرانيين. ففي عام 1947، أنشأ الشيخ محمد تقي القمي مع علماء سنة آخرين دار التقريب بين المذاهب في القاهرة. ضمت الدار في عضويتها الشيخ عبدالمجيد سليم شيخ الجامع الأزهر آنذاك، والشيخ حسن البنا رئيس جمعيات الإخوان المسلمين، والشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين، والشيخ علي بن إسماعيل المؤيد من شيعة اليمن الزيدية، إلى جانب الشيخ القمي والشيخ محمود شلتوت. وكنتيجة لهذا التقارب أصدر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر لاحقاً فتواه الشهيرة عام 1959 بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري و"أن الكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى". أما الآن فقد أنشأ الأزهر نفسه لجنة لمكافحة التشيّع في مصر، وأصبح كلا الطرفين يستعير ألفاظ الماضي للإشارة إلى "الرافضة والنواصب". وهكذا عادت السياسة لتلقي بظلالها على النظرة إلى الآخر وتستعير أسوأ ما في التاريخ بين العرب والإيرانيين خدمة للصراع الدائر حالياً.
الدولة العربية- الإسلامية
سلاح ذو حدين، استُعمِل للتفريق والتقارب في آن واحد. فالتاريخ السياسي منذ الغزوات الإسلامية القادمة من الجزيرة العربية مليء بمرارات للفرس الإيرانيين. فقد أضحوا مواليَ في الدولة الجديدة، بعد أن بادت الإمبراطورية الساسانية. ولكن في الوقت نفسه فإن إسهامات العلماء والمفكرين والأدباء من أصول فارسية أثرت مخزون الدولة الإسلامية الثقافي. فمن أبي حنيفة النعمان، مؤسس أولى المدارس الإسلامية السنية، إلى إبن الرازي في الطب، وسيبويه في علم النحو، وأبي نواس في الشعر في العصر العباسي، وصولاً لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري في القرن العشرين. كل هؤلاء وغيرهم أضحوا جزءاً أساسياً في التراث العربي، وهم دليل على درجة الاندماج التي بلغها "مواطنو" الدولة الإسلامية قديماً فيما يتجاوز الحدود العرقية الضيقة.
وقد أصبحت التسميات التاريخية مؤشراً على مدى التوتر في التعبير عن الهوية بين الطرفين. فالتسمية القديمة للخليج بأنه "خليج فارس" تشبه تسمية "بحر الروم" التي استعملها العرب قديماً. وهي حسب رأي الباحث في جامعة بوسطن، د. هوشانك شهابي، جاءت بمعنى "الطريق إلى" وليس بمعنى الملكية. ولكن الشد والجذب بين الهويتين المتصارعتين على ضفتي الخليج يستدعي ما هو أعمق من مجرد تسمية للخليج، ويحمله معنى التبعية والسيطرة.
الصراع السياسي
نتيجة لميراث طويل من صراع القوى، والتدخلات الاستعمارية في الشرق الأوسط، نشأت مشاكل عديدة بين إيران وجيرانها العرب أسهمت في تعقيد العلاقة المتوترة أساساً. ومن أمثلتها، مشاكل الحدود بين العراق وإيران منذ أوائل القرن الماضي والتي تفجرت لاحقاً في حرب طاحنة استمرت ثماني سنوات. مشكلة الجزر الإماراتية التي أورثها الاحتلال البريطاني. التوتر السياسي- الطائفي في البحرين. كل هذه القضايا شكلت تمهيداً لتوترات لاحقة عقدت العلاقة بين العرب والإيرانيين ربما لأبعد مما شهده تاريخهما المشترك. فالإطاحة بصدام حسين عام 2003 وما شهده العراق من تدخلات إيرانية بلور استقطاباً طائفياً- عرقياً. فالعرب (وغالبيتهم في العالم العربي من المسلمين السنة) رأوا أن إيران بإسلامها السياسي الشيعي أضحت خطراً عليهم. وهكذا جاءت الردود العربية في شكل حروب بالوكالة في العراق وسوريا، وحتى على شكل تهويل من خطر التمدد الإيراني الشيعي. واستُدعيت ذكريات النزاع السياسي- الطائفي من أقبية التاريخ لتلمع مرة أخرى تحت شمس المذهبية التي باتت تحرق الجميع في شرقنا الأوسط.
وصل الأمر بمفكر عربي معروف مثل د.عبد الله النفيسي أن يصرح أن "إيران أشد خطراً على العرب من إسرائيل". وكرر تحذيراته من خطر إيران على العرب ورغبتها في السيطرة على الخليج أكثر من مرة مستشهداً بمقولات للرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني عندما كان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشورى.
الإسلام العربي
يلوم الإيرانيون العرب على إسلامهم. ربما تبدو هذه الجملة غريبة الوقع على الأذن. فإيران جمهورية "إسلامية"، وغالبية شعبها متمسكة بالإسلام وحريصة على أداء شعائره. كيف يستقيم إذن أن يلوم هذا الشعب جيرانه على إدخال الإسلام إلى بلده. لقد حلت الذهنية الإيرانية هذا الإشكال بتصنيف الإسلام إلى "إسلام إيراني" و"إسلام الآخرين". الإسلام الايراني الذي تتبناه إيران هو الفهم الإسلامي الصحيح الذي يجب أن يُقدم للعالم. وهو إسلام يراعي الخصوصية الإيرانية في تفسير تعاليم الشريعة، ويتواءم مع تاريخها المذهبي في تبني المذهب الإثني عشري. الموضوع هنا أعمق بكثير من تحزب طائفي تقليدي بين الشيعة والسنة. إنه محاولة إيرانية للحفاظ على الشخصية الإيرانية المتميزة التي تأبى الذوبان في إطار ديني واسع يضعها على قدم المساواة مع من لا تزال تعتبرهم أقل منها حضارياً، أي العرب. هذه المحاولة الدفاعية تفهم جيداً أنه لا سبيل لتغيير الهوية الإسلامية للشعب الإيراني، ولكن هناك طريقة أخرى للالتفاف حول هذا الموضوع بكسر الحلقة المشتركة مع العرب، وهي الدين. هذه الملاحظات التي جاءت على لسان مستشار الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد، اسفنديار رحيمي، كانت مقدمة لمحاولة نجاد الاعتماد على الروح الوطنية أكثر في خطابه السياسي. وهي في الوقت ذاته تعبير أمين عما يعتقده معظم الإيرانيين المتدينين. فالعرب حملوا الإسلام من جزيرة العرب، ولكنهم لم يفهموه جيداً ولم يطبقوه كما يجب. وهكذا حُلت الإشكالية بين اعتناق الرسالة وكراهية الغزاة الذين حملوها.
وهذا التوجه من الرئيس السابق لم يأت من بنات أفكاره تماماً، بل هو صورة أخرى لما أعلنه الخميني بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران. حينها قسّم الخميني الإسلام في العالم إلى "إسلام محمدي" وهو في رأيه الإسلام الأصيل الذي تبنته الثورة الإيرانية، و"الإسلام الأمريكي" الذي يتبناه الآخرون. وجاء هذا التقسيم معبراً تماماً عن الرغبة في الحفاظ على الهوية الإيرانية متميزة ضمن إطار الإسلام الواسع.
في نظرة سريعة على خريطة المنطقة نرى نموذجين مختلفين من العلاقة بين العرب والإيرانيين. فحيث تنشط التعاملات التجارية المشتركة وتزدهر مصالح الطرفين نرى علاقة صحية أكثر، كما هو الحال في دبي. وحين تنقطع الروابط ويسود التخوف والجهل بالآخر نرى العلاقة أكثر تشنجاً كما هي بين إيران والسعودية.
هناك الكثير مما يمكن أن يُبنى عليه في مجالات التعاون الاقتصادي، والأنشطة الثقافية والتراثية، والسياحة وبعث التاريخ المشترك بما يحمله من إيجابيات غابت عن الأسماع. متى ما تشابكت المصالح وتلاقت الوجوه، امتدت الأواصر وضاقت مساحة استدعاء مرارات الماضي. كل هذا يحتاج لنية وإرادة لم نرهما حتى الآن.
لا تبدو لهذه الكراهية العرقية ذات الامتدادات المذهبية نهاية في المستقبل القريب. فقد أضحت جزءاً من معركة الوجود في المنطقة. ونحن نشهد فصولاً متعددة منها في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن. صراع يؤججه الخوف والنفور والرفض للآخر، ويعمل كلا الطرفين على إدامته عوضاً عن إنهائه. ربما يتذكر الطرفان أن هناك مشتركات يمكن البناء عليها حين يشعران بالإنهاك. خصوصاً أنهم جيران دائمون ولن ينتقل أي منهم للعيش في قارة أخرى. فالكراهية لا تبني مستقبلاً ولا تحصن أجيالاً من القتل والدمار وضياع الموارد. وقد يتذكران حينها أيضاً أن المهمة الأساسية للتاريخ هي أن نتعلم منه، لا أن نعيد أخطاءه ونعيش فيها.
علي أديب
0 comments:
إرسال تعليق