على أجسادنا يمرّونعند مدخل السرايا الحكومية في زقاق البلاط، النقطة الأشد سخونة في حصار البرلمان، واجهت امرأة ستينية بصوتها، دروع عناصر فوج التدخل في الجيش، وبعدهم عناصر المغاوير: "لن يمرّوا إلا على أجسادنا"، صرخت. هذا ما حصل. وتصاعد قمع المتظاهرين السلميين، بالضرب حيناً والتوقيف حيناً آخر، إلى أن انهالت القنابل المسيلة للدموع من قوى مكافحة الشغب. وسبق هذا وصول مجموعات من الشبيحة إلى زقاق البلاط ومدخل الإسكوا، لمحاولة الفتك بالمعتصمين. وفي مشهد اعتيادي، رشقوا الناس بالحجارة، وحاولوا محاصرة حصارهم. أسقطوا جرحى، لكن حصار المجلس لم ينفكّ. فلجأت القوى الأمنية إلى المسيل للدموع، قبل وصول مواكب النواب بدقائق. القوى الأمنية تضرب والنواب يسرعون إلى داخل الطوق. هذه مذلة تليق بالسلطة التي مرّت على أجساد الناس لتهريب الثقة بالحكومة.
انتظار النصاببين زقاق البلاط والطريق البحرية عند مرفأ بيروت شمالاً، والسان جورج جنوباً، كان الطوق متكاملاً. عاد الناس إلى الشارع، ومعهم عاد الزخم بغابة من اللهجات اللبنانية التي عوّدتنا عليها الثورة: من عكار وطرابلس وجونيه وجل الديب والبقاع والشوف والجنوب، لكنات تنده في مضمون واحد: لا ثقة. إجماع لبناني تتبنّاه السلطة زوراً في العلن، وتنكأ جراحه الطائفية والمناطقية في العلن أيضاً. كان عدّاد النواب في البرلمان شغالاً عبر الاتصالات وإحداثيات وسائل الإعلام. أما عدّاد الساعة، الذي راهن عليه الثوار، فأسقطه رئيس المجلس بالتمديد لانطلاق الجلسة. ولولا العيب والحياء لكان مشى بالجلسة إلى ضربات الترجيح، وكل ما في جعبته من بطاقات وأرانب. فالرئيس والمجلس، لن يحتملا إسقاط الجلسات مجدداً. فكان انتظار النواب في البرلمان، أشبه بانتظار المواطنين في صالات المصارف. لما لا، وليس في هذا الانتظار إلا الذل؟ مع فارق جوهري أنّ الناس في المصارف يحصّلون فتات أموالهم، أما النواب في البرلمان فيشرّعون استمرار النهب وشراء الوقت قبل إعلان الانهيار. وهناك فارق آخر: الناس في موقع ضعف أصلاً، أما النواب فذلّهم مضاعف: أصحاب سلطة مذلولون.
ذل النوابيضاف إلى ذلك أنّ بعض هؤلاء النواب وصل إلى البرلمان على دراجات نارية، أو في سيارات عادية وفردية. بلا مواكب ولا أبواق ولا تشبيح. رُشِق بعضهم بالبيض والتلوين، تلقائياً، ووقع أحدهم في قبضة الثوار. نال النائب في كتلة الحزب السوري القومي الاجتماعي نصيبه من الضرب، فنقل إلى المستشفى للعلاج حيث خيط وجهه. نائب في موقع جلّاد تحوّل إلى ضحية؟ الأمر متروك للثوار. منهم من اعتبره "مهضوم وسلس"، ومنهم من شتموه حتى بعد ضربه. فـ "الهضامة" و"السلاسة" شيء، والمنصب النيابي والتشريعي شيء آخر. البرلمان ليس مكاناً للتهريج ولا للكوميديا. هذه المقاربة السلطوية السابقة، بإضفاء أجواء المزاح والتنكيت عند تشريع إفقار اللبنانيين وإعدامهم مالياً، سقطت. لا وقت لها في زمن الثورة التي لا تزال تحافظ على سلميتها المطلقة تجاه أزلام السلطة وممثليها. فيما القمع في حركة تصاعدية.
مرّت الجلسةانطلقت الجلسة بنصاب منقوص، وبعد تمديد موعدها. لكن الناس بقوا في الشارع. هذا مؤشر لما ستكون عليه الحال في المرحلة المقبلة. هذه الحكومة التي وصلت على أجساد اللبنانيين، ستولّد موجات متلاحقة من الثورة. مدّها سيعود ليطال الحكومة والبرلمان والمصارف وجمعيّتها. إعادة تكوين السلطة، على أبواب إعلان الإفلاس العام، محفّز للثورة لا العكس. هذا ما يدركه الثوار وما تناقلوه في نقاط حصار الثلاثاء. وإعلان الحكومة لن يحول دون تكرار هذا الزخم والحشد. والسلطة بوقاحتها التي لا حدّ لها، طلبت من اللبنانيين فرصة. حاصروها واحتجّوا عليها، فمنحت نفسها فرصة غصباً عنهم. هذا كله يؤجّج الثورة لا يحبطها. وتضاف إليه عوامل الطقس وانتهاء فصول الجامعات والمدارس، واشتداد الأزمة المالية والاقتصادية.
0 comments:
إرسال تعليق