تأبى عجلات الزمان
في لبنان إلاّ أن تعود إلى الوراء، وهي في الحد الأقصى تراوح مكانها. فلا
يحرز هذا البلد أي تقدمٍ ملحوظٍ، لا اقتصادياً ولا سياسياً، ولا حتى على
صعيد انتماء أبنائه الوطني. وكلما مرّت السنوات زادت فئة كبيرة جداً من
اللبنانيين تعصباً. لا عِبر ولا دروس من الماضي. وحده التعصب محرك عقولهم.
يجدون مبررات لانتهاكاتهم الإنسانية، يختلقون الأعذار لممارسات زعمائهم،
وهي غالباً ما تودي بهم إلى الجحيم، بعد حروبٍ أهلية وفقرٍ، فيما لا يزال
الخوف من الطائفة الأخرى وعلى مصير الطائفة هو الحقيقة الماثلة.
لم يكن أهل السنّة قد استفاقوا بعد من صدمة استشهاد
زعيمهم رفيق الحريري في العام 2005، وما كانوا قد شبعوا بعد من استغلالٍ
وتوظيفٍ لهذا الاستشهاد، حتى جاءتهم صفعة 7 أيار 2008 من حزب الله وسواه من
أقنعته الحزبية الممانعة.
ففي ذلك السابع من أيار 2008 استفاق أهل بيروت على احتلالٍ
جديدٍ للمدينة. أعاد مشهد المسلحين المنتشرين والمنتسبين إلى فريق المعارضة
آنذاك (الحزبين الشيعيين، الحزب السوري القومي الإجتماعي، ومناصري طلال
إرسلان في منطقة خلدة والشويفات) صور الحرب الأهلية وممارساتها. أما الجيل
الجديد الذي لم يعش الحرب الأهلية فكانت 7 أيار بدايةً ذاكرتهم الحربية
التي رسمت خطوط تماسٍ جغرافية وطائفية جديدة، قوامها العداء والبغضاء بين
السنة والشيعة.
شيعة أهل البيت: السنّة خونةقام
المهاجمون، مسلحوا 7 أيار، بعمليات خطفٍ وقتلٍ، ومارسوا التهديد والوعيد
على سكان بيروت. لم يميزوا بين أنصار الأحزاب الموالية للسلطة (تيار
المستقبل، الحزب الاشتراكي وغيرهما) وبين السكان العزل.
تقول رانيا التي كانت تقطن في عمارة إذاعة الشرق التابعة
لتيار المستقبل، إن المسلحين اقتحموا العمارة وأحرقوها. ورانيا خسر والدها
معمله في الضاحية الجنوبية في حرب تموز 2006، ولم يتلق أي تعويضٍ، بل عومل
كغريب. فالمساعدات نالها أبناء الطائفة الشيعية فقط، فيما أفلس والدها.
وجاءت 7 أيار 2008، فخاف والدها على محله الجديد وهرع لحمايته وتفقده، فعلق
خارج المنزل ولم يسمح له بالعودة. دعاه صاحب أحد المحال التجارية إلى
المبيت في منزله. أما رانيا وباقي السكان فتجمعوا عند الثالثة فجراً في
الشارع، ليكيل لهم المسلحون أبشع النعوت.
تقول رانيا إنها ميزت مقاتلي حركة أمل الذين تزين الأوشام
الدينية زنودهم وصدورهم، عن مقاتلي حزب الله الذين لا يتكلمون إلاّ عند
الضرورة. حاولت الاعتراض على الإهانات عندما نعتوهم باليهود والخونة:
"لماذا لا تقاتلون اليهود الحقيقيين هناك عند الحدود؟". هددوها بخطف أخاها
الواقف قربها. ومذاك تسرد رانيا على مسامع أولادها ما فعله الشيعة في
بيروت.
تقول إن عائلتها لم تكن لتفكر يوماً بالحديث عن نزع سلاح
المقاومة. بل كانت تكن لحزب الله وسيده كل الاحترام والمحبة. ولم يجن من ما
فعله في 7 أيار سوى الكره والبغض.
"الشيعة طعنونا بالضهر"، تقول فدوى عند سؤالها عن 7 أيار.
وفدوى تسكن في الطريق الجديدة. وكادت تخسر والدتها في تلك الحملة العسكرية
على بيروت. وتسخر بالقوة التي يدعيها حزب الله: "كيف لحزبٍ يتباهى بأنه
قاتل إسرائيل أن يهاجم مدنيين عزل؟". وهي تعتب على الحزبين الشيعيين اللذين
احتضنت أهلهما بيروت في حرب تموز: "فتحنا أبوابنا لاستقبالهم واحتضانهم،
تطوعنا لجمع المساعدات وتقديمها للنازحين، لكنهم خذلونا". وفجأة تتساءل:
"بما يتميزون عن إسرائيل المجرمة الظالمة؟!".
مضى على حادثة 7 أيار 12 عاماً. ولم ينس السنّة في بيروت ماذا
حدث وكيف وجه حزب الله سلاحه إلى صدور أبنائهم. صوتا رانيا وفدوى لا
يحملان في طياتهما سوى مشاعر العتب واللوم، ممزوجة بالإنكسار.
تهديد بـ 7 أيار آخرلم
يكن أحمد قد تجاوز الثامنة من عمره في 2008، إلاّ أن الواقعة التي شارك
فيها والده وأخوه ما زالت عالقة في ذاكرته، لا بل ساهمت في تشكيل وعيه
العقائدي السياسي. والحروب والمعارك التي خاضها الشيعة، خرجوا منها كلها
منتصرين، يقول أحمد بنبرة فوقية يسودها الاستعلاء المتعجرف. يتحدث متمنياً
تكرار 7 أيار ليشارك فيها شخصياً. ويصف بـ "السحسوح" لكل من يتجرأ على
المساس بسلاح المقاومة وشيعة أهل البيت. يعتبر 7 أيار رداً على قرار حكومة
السنيورة بنزع شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله.
تجبّر أحمد وتكبّره ككثيرين من عقيدته، لم يأت من فراغ. فخلف
تلك العقيدة صوت حسن نصرالله وكلامه، و"دماء الشهداء" الذي قدمته الطائفة
الشيعية ولا تزال "فداءً لهذا الوطن". فهم دحروا اسرائيل ويتحدونها كل يوم،
وهم حاربوا داعش وسحقوا الإرهابيين.
وفي الذاكرة الجمعية المتقادمة هناك "الروايات النمطية" عن
خيانة السنّة الموالين لأبو بكر وعمر ومعاوية، الشيعة والغدر بهم. ولا
يستطيع أحمد فصل الواقع الحالي عن الروايات الخرافية. والسنّة عنده "أحفاد
يزيد بن معاوية". وهو يعدد أبرز التواريخ التي "غدر السنة فيها بالشيعة".
وهم شركاء العملاء في البلاد. ففي العام 2006 تعامل الزعماء السنة - ومنهم
رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة - مع إسرائيل وأميركا. وفي العام 2008
حاولوا التطاول على سلاح المقاومة وضرب شبكة اتصالاتها. وشوهوا صورتها خلال
حرب سوريا. ويرى أحمد أن انتفاضة 17 تشرين 2019 لضرب سلاح المقاومة. ويقول
إن الوقت حان لتوجيه "سحسوح" جديد للمتظاهرين. وهو لن يتوانى للحظات عن
المشاركة في تأديبهم.
زفاف إبنة برّي وزغاريد الشهداءوإذا
كان أحمد يريد تكرار أحداث 7 أيار، فإن علي يندم على مشاركته في القتال
آنذاك ودفاعه عن زعماء فاسدين. كان علي واحداً ممن شاركوا في الهجوم على
منطقة الطريق الجديدة. لكنه شكك في مشاركته، عندما شاهد تجمع الزعماء
اللبنانيين يتعانقون في اتفاق الدوحة. ولا يزال حتى اليوم كلما مرّ في
منطقة طريق الجديدة، يتذكر كيف احتفل نبيه برّي بزفاف ابنته بعد أيامٍ على
نهاية هجمات 7 أيار، فيما كان الحزن يلف مناصريه على القتلى الذين سقطوا في
تلك الهجمات.
Posted in: لبنان
إرسال بالبريد الإلكتروني
كتابة مدونة حول هذه المشاركة
المشاركة في Facebook
0 comments:
إرسال تعليق