في الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتيال الزعيم الوطني كمال جنبلاط في 16 آذار 1977، لا بدّ من الإضاءة على هذه المحطة التي كانت الأولى في سلسلة الاغتيالات التي توالت في لبنان واستمرت زهاء ثلاثة عقود لتتجلّى في «ثورة الأرز» في الرابع عشر من آذار 2005.
في خريف 1976 سرت إشاعات عن خطط لتصفية كمال جنبلاط وعدد من السياسيين اللبنانيين، وجاءت حادثة انفجار سيارة "رينو" في 4 تشرين الثاني قرب منزل جنبلاط في المصيطبة في بيروت لتؤكد ما يتردد وما يقال. في ذلك اليوم التقى جنبلاط بالعميد ريمون اده عند الحادية عشرة والنصف ليلاً وقدّم إليه ورقة قائلاً: "هذه قائمة سوداء اسمك الأول فيها، واسمي الثاني"، فردّ ريمون اده: "عندي الورقة نفسها، ولكن عليها اسمك قبل اسمي...".
وفي 16 آذار 1977، كان موعد جنبلاط مع القدر. منذ الصباح شرع في كتابة افتتاحية مجلة "الأنباء"، التي ختمها بعبارة "اللهم أشهد أني بلغت"، وانطلق مع مرافقيه قاصداً مدينة عاليه للمشاركة في اجتماع لإحدى الجمعيات، ولم يعلم أنّ أوان موته قد حان، فكان الاغتيال الكبير.
أبو زكي والتحقيق
قائد الشرطة القضائية السابق العميد الركن المتقاعد عصام أبو زكي، كان من أوائل الذين تولوا التحقيق في جريمة اغتيال جنبلاط ومرافقيه، وهو عمد إلى جمع الأدلة من مسرح الجريمة بعدما كان اول من وصل إليه.
بدأ أبو زكي حديثه لـ"الجمهورية" مستعيناً بذاكرته وأرشيفه وملفاته، مؤكداً أنّ "المخطط لاغتيال جنبلاط بدأ بمضايقته على الحواجز السورية، فكان الضباط السوريون يعترضون على وجود مرافقي جنبلاط في سيارة أخرى تواكبه، وعندما كان يؤكد لهم حيازته رخصة لستة عشر عنصراً كان الجواب: "يجب أن تكون العناصر معك وليس في سيارة أخرى". وكان جنبلاط يسألهم "أين أضع هذا العدد في سيارتي؟" حتى ملّ من هذا الوضع وقرر ألا يصطحب أحداً معه، وهذا الأسلوب يذكرنا تماماً بسحب عناصر الحماية من الرئيس الحريري".
يوم الجريمة
وعن وقائع يوم الاغتيال، يقول أبو زكي: "في ذلك اليوم المشؤوم في 16 آذار 1977، كنت متوجهاً من بيروت إلى بعقلين نحو الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، ولدى وصولي إلى مفترق دير دوريت شاهدت سيارة بونتياك "فيرل برد" تحمل لوحة عراقية متوقفة إلى جانب الطريق ومفتوحة الأبواب، وفوجئت في الوقت نفسه بوجود جثتين على الأرض، الأولى بلباس عسكري والثانية بلباس مدني. وعندما أكملت طريقي فوجئت بسيارة المرسيدس التابعة للشهيد كمال جنبلاط وهي تحمل الرقم 5888، يقف الى جانبها رئيس بلدية غريفة نديم حرب والضابط السابق في الجيش معين أبو شقرا، ورأيت مشهداً لن أنساه ما حييت. كان المعلم كمال جنبلاط داخل السيارة مائلاً بجسده ناحية اليسار والدم ينزف من رأسه حتى ربطة عنقه، والى جانبه كتاب "نكون أو لا نكون". ولأني ضابط أمن مفصول إلى المباحث العامة، وفي ظل غياب المخافر والقوى الأمنية في الجبل، بدأت فورا بالحفاظ على مسرح الجريمة لأنه الدليل الوحيد الذي سيؤدي إلى كشف الفاعل، لأن المجرم يترك أثراً دائماً. هكذا جمعت القذائف الفارغة، واستدعيت احد المصوّرين الذي التقط صوراً للشهيد ورفيقيه، ثم فتشت سيارة "البونتياك" وعثرت في داخلها على أشرطة تسجيل وسكاكين مسنونة وحادة كالشفرة ومواد حارقة... وصل شيخ عقل الطائفة المرحوم الشيخ محمد أبو شقرا، وطلب نقل المعلم إلى المختارة، فقاد السيارة شاب اسمه عادل حرفوش، وما زالت السيارة كما هي في قصر المختارة، تحمل آثار الجريمة".
ويتابع أبو زكي: "... ثم وصل وليد جنبلاط الى المختارة وبدأ يعطي تعليماته إلى الجميع لوقف مسلسل الفتنة والحوادث الدموية التي رافقت عملية اغتيال كمال جنبلاط وسقط فيها عدد كبير من الضحايا الأبرياء في منطقة الشوف".
ويروي أبو زكي "أنّ معظم الذين ارتكبوا المجازر في الشوف وبقية المناطق عشية اغتيال جنبلاط هم من المجموعات الدرزية التابعة للسوريين وقتذاك، ومن المطلوبين للعدالة، وأن جنبلاط حرص كل الحرص على حماية الناس ووأد الفتنة".
كيف حصل الاغتيال؟
يجيب أبو زكي: "يوم الجريمة كانت سيارة "البونتياك" متوقفة عند مثلث بعقلين قرب حاجز سوري برئاسة الضابط السوري محسن سلّوم. كانت مهمة مَن في السيارة رصد تحركات سيارة كمال جنبلاط اثر خروجها من المختارة، فما إن مرّت سيارته حتى لحقت بها "البونتياك" وكان جنبلاط في سيارته "المرسيدس" التي كان يقودها مرافقه حافظ الغصيني، وفي الخلف جلس مرافقه الآخر العريف في قوى الأمن الداخلي فوزي شديد، متوجهين نزولاً من بعقلين ناحية دير دوريت في اتجاه بيروت. وكانت الساعة تقارب الثانية والربع بعد الظهر، عندما اعترضت سيارة "البونتياك"، وفي داخلها أربعة أشخاص مسلحين، اثنان منهم بلباس عسكري مرقط، سيارة جنبلاط عند منعطفات دير دوريت، وترجّل منها المسلحون شاهرين سلاحهم واقتادوا السائق حافظ الغصيني مع العريف فوزي شديد الى سيارة البونتياك، وصعد اثنان من المسلّحين الى سيارة المرسيدس حيث كان الشهيد جنبلاط، فقادها احد المسلّحين فيما جلس الآخر في المقعد الخلفي، وتبعتهم سيارة البونتياك، وفي داخلها المسلّحَان الآخران ومعهما مرافقا جنبلاط، وصودف مرور سيارة مدنية من هناك، فأمرها المسلّحون بمتابعة السير. ويروي صاحب هذه السيارة انه سمع صوت الشهيد جنبلاط وهو يسأل المسلّحين "مين انتو يا عمي؟" وكما ثبت لدينا من خلال التحقيق، أنّ الشهيد جنبلاط عندما شعر بالخطر، وكونه في منطقته وبين أهله، حاول أن يلفت إليه الانتباه فقام بتغيير وجهة السيارة، وهذا مؤكد لدينا، لأنّ الشخص المسلّح الذي تولى قيادة سيارة الشهيد جنبلاط أوقفها في شكل مفاجئ، ما أدى الى اصطدام سيارة البونتياك التي كانت تسير خلف المرسيدس بمؤخرتها من ناحية اليسار، وهذا كان ثابتاً لدينا من خلال التحقيق، إذ ظهرت آثار الاصطدام في مقدمة البونتياك ومؤخرة المرسيدس، وتم اطلاق النار على الشهيد جنبلاط على يد المسلّح الذي كان يجلس خلفه.
إذا حكيت أي كلمة ستموت
وقد أنزل المسلّحان في سيارة "البونتياك" فوزي شديد وحافظ الغصيني وأطلقا عليهما الرصاص، ثم فرّوا جميعاً في سيارة البونتياك التي كانت تحمل لوحات عراقية، إلا انهم، اصطدموا بمرتفع ترابي فتركوها واستقلوا بالقوة سيارة "فيات" كانت تمرّ مصادفة في المكان يقودها سليم حداد، والى جانبه شاب يدعى جميل عازار، فأرغموا عازار على النزول من السيارة والانبطاح أرضاً، وهدّدوا حداد، طالبين أن ينقلهم الى مستديرة الصالومي في سن الفيل. واكد حداد في إفادته لاحقاً أنهم كانوا أربعة مسلحين: اثنان بملابس مدنية وآخران بملابس عسكرية وكانت لهجتهم سورية، وكانوا عندما يمرون على حواجز القوات السورية يبرزون بطاقات خاصة "فيضربون لهم السلام". وعندما نزلوا الى مكتب قوات الردع السورية في الصالومي قالوا لحداد "إذا حكيت أي كلمة ستموت"، واعتبر أبو زكي "أنّ تصرّف هؤلاء المسلحين فيه كثير من الغباء أو الثقة الزائدة بأنّ أحداً لن يجرؤ على كشف أمرهم".
البونتياك: قصّة غريبة
ولسيارة البونتياك قصّة غريبة يرويها أبو زكي، فيقول: "قبيل الجريمة النكراء ضبطت الجمارك اللبنانية في مرفأ بيروت في تاريخ 8/1/1977 سيارة أميركية الصنع، من نوع بونتياك، في داخلها 79 كيلوغراما من حشيشة الكيف، وكانت تحمل لوحة لبنانية مجمركة ذات الرقم 133014/ل، مسجلة باسم مالكها حسين محمد علي شمس الدين، وأوقف شمس الدين ومعه معقب المعاملات وليد محمد زرقوط، بناء لأمر المدعي العام لبيروت ديب درويش، وحضرت الى المرفأ دورية من المباحث العامة لتسلّم السيارة والموقوفين والمخدّرات، وعند إخراجها من المرفأ أوقفها حاجز سوريّ على مدخله وأخذها بالقوة من رجال المباحث اللبنانية. وعندما راجعت السلطات الأمنية اللبنانية السوريين، أفاد آمر قوة الردع العربية السورية آنذاك في المرفأ الملازم أول احمد سكابا أنه تسلّم الموقوفين والسيارة، وبناء لطلب السلطات اللبنانية سلّمها الضابط سكابا إفادة خطية جاء فيها حرفياً: "تسلّمت من معاون رئيس ضابطة جمارك بيروت المدعوين حسين محمد علي شمس الدين ووليد محمد زرقوط مع 87 طربة حشيشة الكيف وزنها 30 كيلوغراماً، والسيارة بونتياك رقم 133014/ ل"، وتحمل الوثيقة توقيع آمر قوة الردع العربية في مرفأ بيروت الملازم أول احمد سكابا. بعد ذلك قدّم الرائد السوري ابراهيم حويجي إفادة بتسلّمه السيارة، التي أعيد إدخالها الى لبنان عن طريق الحدود اللبنانية - السورية، بموجب معاملة جمركية مؤرّخة بتاريخ 10/3/1977 بإسم المدعو حسين جعفر كاظم جواد، وتحمل لوحة عراقية رقمها 72719- بغداد، واستقلّها قتلة الشهيد جنبلاط. وقبل الاغتيال شوهدت السيارة في بيروت في اكثر من مكان. كما شوهدت في منطقة نزلة ابو طالب في آخر شارع الحمراء، وقد أفادنا أبو طالب نفسه بأنه شاهد هذه السيارة التي عمّمت أوصافها بعد حادث الاغتيال، تتوقف أمام فندق "لورنزو موزارت". وبعد التحقيق تبيّن أنّ الأربعة كانوا من نزلاء الفندق وقد سجل اثنان منهم اسميهما، احدهما حسين جعفر كاظم جواد، والثاني ساهر محمود جبيلي. ويؤكد المعاون محمد الحسن، شقيق العميد اسماعيل الحسن، أنه قبل حادثة الاغتيال وبينما كان يتولى حراسة مبنى مخفر حبيش شاهد السيارة تسير عكس السير ويستقلها الجناة الأربعة، فتقدم من سائقها وقال له: "إنك تسير عكس السير"، فأجابه: "نحن مخابرات افتح لنا الطريق، ثم نزل المسلّح واطلق النار في الهواء إرهاباً لتأمين السير".
التعرّف الى القاتل
وعن توصل التحقيق الى معرفة هوية أحد المسلّحين الأربعة الذين نفذوا عملية الاغتيال، يؤكد أبو زكي، "أنه الرائد السوري ابراهيم حويجي، الذي كان مسؤولاً عن مكتب المخابرات السورية في مستديرة الصالومي، والذي تسلّم سيارة "البونتياك" واحتفظ بها، وهو من الذين شاركوا في معركة تل الزعتر. ولدينا إفادات تؤكد أنه كان يقود "البونتياك" ويستخدمها في تنقلاته الشخصية. وتوصلنا فعلاً الى اكتشاف تطابق صفاته على أحد المسلّحين الأربعة. كما أنّ الشاهد سليم حداد، الذي نقل المسلّحين الى الصالومي، أكّد أنّ شخصاً جلس بجانبه وكانت لديه رتبة عسكرية عالية، وكان عناصر الحواجز السورية الذين ينتشرون على الطرق يؤدون له التحية العسكرية، والدليل انهم قصدوا الصالومي حيث كان مركز الرائد حويجي". ويؤكد أبو زكي "أنّ حويجي رقّي بعد ذلك وصار مدير المخابرات الجوّية في سوريا، وكان الزعيم وليد جنبلاط اكد انه التقى حويجي في ليبيا خلال زيارة قام بها الى هناك".
ويتابع أبو زكي: "كان المسلّحون يخططون لخطف كمال جنبلاط الى منطقة مسيحية، وارتكاب جريمتهم هناك حتى ينفجر قتال طائفي بين المسيحيين والدروز، وربما كانوا ينوون قطع رأسه، او إحراق جثته، نظراً الى وجود سكاكين حادة في سيارتهم وكمية من البنزين".
وعن نهاية التحقيقات وسبب توقفها، يقول أبو زكي: "الرئيس الياس سركيس تعرّض لضغوط سياسية كبيرة، فاستدعى القاضي قوّاص وطلب منه التوقف عن التحقيق، كما أنّ وليد جنبلاط عاد واسقط حقه، ثم تقرّر بعدها إسقاط الدعاوى والملاحقات الجزائية والكف عن التعقبات واسترداد كل المذكرات وحفظ الرسوم والمصاريف...".
رحل كمال جنبلاط وكان المطر ينهمر غزيراً تماماً كالمطر الذي انهمر ليلة مولده على سطوح منازل المختارة في 6 كانون الأول 1917، إلا أن جنبلاط لم يترك المطر وحده يروي الأرض، فسالت دماؤه غزيرة تروي أرض لبنان التي أحبّ، مؤكداً ما ردّده دائماً "أنّ الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء".
الجمهورية
0 comments:
إرسال تعليق