الحديث السادس
ويتهم جمال عبد الناصر بين ما يتهم به اليوم فى مصر أنه أشعل نيران الصراع الطبقى فى مصر، وأثار الحقد والبغضاء والحسد بين الأغنياء والفقراء، فلم يصبح هؤلاء آمنين بما رزقهم الله، ولا أصبح أولئك راضين بالقسمة والنصيب!
وتثير هذه التهمة -!- سؤالين:
- هل الصراع الطبقى فى مصر - أو فى غير مصر- ظاهرة اخترعها جمال عبد الناصر ولفقها؟ أم أن الصراع الطبقى باعتراف الدنيا كلها - غرباً وشرقاً - واحد من أهم عوامل الحركة التاريخية وقانون من قوانينها؟
- وهل كانت مصر - قبل جمال عبد الناصر - آمنة سالمة من تفاعلات الصراع الطبقى كأنها لؤلؤة فى صدفة مغلقة نائمة مع أحلامها فى أعماق البحر بعيدة عن العالم وعن التاريخ؟! أم أن الصورة الحقيقية كانت أبعد ما تكون عن هذه اللوحة من لوحات السلام الأبدى؟!
الرد على هذين السؤالين:
صورة واحدة هى صورة القاهرة المحترقة فى مساء يوم 26 يناير 1952.
كانت العاصمة التى أكل اللهيب قلبها وحوله إلى أنقاض متداعية ورماد - هى التصوير البشع لحدة الصراع الطبقى فى مصر وضراوته.
وبصرف النظر عن الفاعل المجهول الذى أشعل الشرارة الأولى فى هذا الحريق فإن الجماهير المحرومة هى التى تولت بعد ذلك تزكية النار وتأجيجها إعلاناً لغضبها ورفضها للقسمة والنصيب معتبرة أن الحرمان ليس قدراً خصها الله به، وإنما هو قسر يفرضه عليها القادرون!
ولم يكن حريق القاهرة صورة واحدة، لم تسبقها صور ولم تلحقها صور فى فيلم تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية فى مصر الحديثة.
قبلها كانت هناك صور تمهد للمشهد المخيف فى 26 يناير.
وبعدها كانت هناك صور تتداعى من هذا المشهد وتتواصل بعده.
... وقبلها كانت هناك تراكمات فوق تراكمات.
- النهب الذى حدث للأرض الزراعية فى مصر طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين: نهب احتكرته الأسرة المالكة فى البداية، ثم أباحت نصيباً منه للمرابين الأجانب، ثم سمحت لطبقة مصرية معينة أن تشاركها فى جزء منه فى ظروف كلها قابلة للطعن محاطة بما يستوجب الريب والشكوك.
- قيام اقتصاد تجارى وصناعى ناشئ ومحدود فى مصر - على أساس فائض مدخرات الملكية الزراعية وفى يد أصحابها - وكان هذا الاقتصاد عاجزاً بسبب ارتباطه بالمصالح الأجنبية الكبرى خصوصاً فى أوروبا..
- وذلك عن طريق البنوك وشركات التأمين والتجارة الخارجية فى الصادرات والواردات وكانت كلها فى يد مجموعات الإنجليز والفرنسيين والسويسريين والبلجيك - الأمر الذى دعا اقتصادياً بارزاً كالدكتور عبد الجليل العمرى الذى تولى وزارة المالية بعد الثورة أن يقول فى وصف الحالة:
- "لقد كان الاقتصاد المصرى كبقرة ترعى فى أرض مصر ولكن ضروعها كانت كلها تحلب فى خارجها".
* تفاقمت الأوضاع الاجتماعية فى ظروف الحرب العالمية الثانية وذلك بأرباح السوق السوداء فى يد جماعات من "الشطار" انتهزوا الفرصة السانحة وضاعفوا وسط ظلام الحرب أرباحهم وثرواتهم.
ثم زادت الحالة تفاقماً فى السنتين السابقتين على ثورة 1952 لأن قيام الحرب الكورية واندفاع الولايات المتحدة إلى تكديس مخزون من المواد الاستراتيجية تحسباً لقيام حرب عالمية - رفع أسعار القطن وذهبت الأرباح كلها إلى أيدى السماسرة والمضاربين وشركائهم على قمم السلطة وفى قيادات الأحزاب.
- وعبّرت التناقضات الاجتماعية المتزايدة فى حدتها عن نفسها بسنوات من القلق فى مصر امتدت من وسط الحرب العالمية الثانية سنة 1942 إلى منتصف سنة 1952، وكان القلق شاملاً للمدينة وللريف فى مصر طوال عشر سنوات مشدودة ومتوترة.
فى المدينة تلاحقت حوادث الاغتيال السياسى لرؤساء الوزارات - أحمد ماهر ومحمود فهمى والنقراشى مثلاً - وباغتيال الوزراء والشخصيات - أمين عثمان والشيخ حسن البنا مثلاً - وباغتيال مسئولى الأمن بل ومسئولى القانون - سليم زكى حكمدار القاهرة والقاضى أحمد الخازندار الذى أصدر أحكاماً فى قضايا كان المتهمون فيها من الإخوان المسلمين مثلاً - وفوق ذلك كانت القنابل تدوى فى دور السينما وفى أماكن السهر واللهو وفى الشوارع تصيب أول عابر سبيل!
فى الريف كانت النار تحت الرماد وكانت تهب أحياناً فيعلو لهيبها حريقاً فى قصور كبار الملاك كما حدث فى قصر البدراوى فى "بهوت"، وكما حدث فى دائرة الأمير محمد على ولى العهد فى ذلك الوقت - على سبيل المثال.
- ثم كانت مذبحة البوليس فى الإسماعيلية قبل أيام من حريق القاهرة - مأساة حزينة تكشف عن عجز النظام المصرى كله عن إدارة الصراع الوطنى سواء على الناحية السياسية أو على الناحية الاجتماعية، وسقط صولجان السلطة على الأرض متهالكاً مهزوماً.
واشتعلت عاصمة الدولة واستبيح قلبها المحترق لكل من يريد أن يخطف غنيمة من وسط الركام!
... وبعد الحريق تداعت الصور.
لم تعد المشاهد المتلاحقة تستغرق السنين وإنما أصبح الحساب بالأيام وبالساعات، كأنه سباق زادت سرعة المشتركين فيه بقرب نهاية الشوط، يحس بها الجميع وإن لم يستطع أحد منهم أن يحدد متى تجىء لحظة الحقيقة، لكن الكتابة - كما يقولون - كانت على كل الجدران!
- أعلنت حكومة الوفد فرض الأحكام العرفية مساء يوم 26 يناير 1952 وبعد ساعة واحدة تلقى رئيسها مصطفى النحاس خطاب إقالته بتوقيع الملك فاروق.
* وتشكلت وزارة برئاسة على ماهر لكنه شهر واحد ثم سقطت الوزارة.
- وكلف نجيب الهلالى بتشكيل وزارة جديدة أعلن قيامها على أساس التطهير أولاً ثم التحرير، وبدأ يحقق فى فضائح المضاربات على القطن وبدأ يطالب أحمد عبود باشا بضرائب متأخرة عليه بلغت قيمتها 11 مليون جنيه أوشكت أن تسقط عنه بالتقادم بعد شهر واحد إذا لم يدفعها فعلاً أو لم يطالب أمام المحكمة بدفعها، واختصر أحمد عبود طريقه فدفع للملك فاروق مليون دولار فى سويسرا لكى يخرج نجيب الهلالى قبل أن يستوفيه حق الدولة أو يطالبه أمام المحاكم به فيحفظ بذلك الحق أن يسقط بالتقادم خمس سنوات.
وسقطت وزارة نجيب الهلالى قبل أن تقترب من التطهير أو من التحرير.
- وجىء بحسين سرى وهو عضو دائم فى مجالس إدارات شركات أحمد عبود ليرأس الوزارة ولكن الغليان المكتوم كان يرج المسرح السياسى رجاً وكانت المدافع الرشاشة ما زالت تدوى فى أجواء القاهرة والقنابل تنفجر على أرصفتها، وكانت دقات النبض السياسى للجيش تبدو مسموعة من خلال انتخابات مجلس إدارة نادى الضباط.. حيث سقط كل مرشحى القصر ونجح آخرون بعد أن ساندهم تنظيم سرى فى صفوفه صدرت عنه قبل ذلك وخلاله منشورات باسم "الضباط الأحرار".
- وسقطت وزارة حسين سرى بحركة ارتجاج المسرح السياسى ذاتها وأعيد نجيب الهلالى إلى رئاسة الوزارة مرة أخرى يوم 21 يوليو 1952.
يوم 23 يوليو قامت الثورة.
وجاء جمال عبد الناصر.
جاء جمال عبد الناصر والصراع الطبقى فى مصر على أشده حريقاً ودماً.
لم يشعل ناره إذن ولم يؤجج ضرامه، ولا اخترعه من عنديّاته أو لفق مظاهره تلفيقاً!
بل لعلى أقول أن جمال عبد الناصر فعل عكس ذلك تماماً فقد أطفأ الحريق وحقن الدم - حين وجد صيغة معقولة للتحول الاجتماعى وكانت مفاتيحها على النحو التالى:
1- لقد أدرك أن الصراع الطبقى قانون من قوانين الحركة الاجتماعية لا يمكن إبطال مفعوله ولا تجميد تفاعلاته، وأن للفقراء حقوقاً لا يستطيع الأغنياء حبسها.
2- إن مخاطر الصراع الطبقى تزداد بمقدار ما تتزايد وتتسع الفوارق بين الطبقات، وفى حالة مصر فإن الفجوة شاسعة، ومن ثم فإن الخطر داهم.
3- هناك مأزق يواجه الشعوب النامية الواقعة تحت سيطرة الاستعمار واحتلاله، وهذا المأزق يتمثل فى أنها تحتاج إلى وحدتها الوطنية الكاملة فى مواجهة الاستعمار الخارجى، وفى نفس الوقت فإن الصراع الطبقى داخلها يقطع ويفصل.
وذلك ما عبر عنه جمال عبد الناصر فى فلسفة الثورة فى يناير 1953 فى حديثه عن التصادم بين ضرورات الثورة السياسية ضد الاستعمار وضرورات الثورة الاجتماعية ضد الاستغلال.
4- استطاع جمال عبد الناصر أن يستوعب حقائق عصره، وأول هذه الحقائق أن الحرب الباردة هى فى صميمها صراع بين كتلتين دوليتين كل منهما مسلحة لا بالقنبلة الذرية وحدها، ولكن قبل القنبلة بعقيدة اجتماعية معينة.
وبما أنه ليس هناك جزء فى العالم يستطيع أن ينسلخ عن الكل خصوصاً بثورة التكنولوجيا وبالذات فى مجال المواصلات - إذن فإن الحرب الباردة لا يمكن صدها عند أية حدود دولية... إنها كظواهر الجو لا تعترف بخطوط الأسلاك الشائكة ولا حتى بحقول الألغام.
ثم أن الحرب الباردة تسابق على النفوذ ميدانه الأرض المفتوحة خارج نطاق الكتلتين المعسكرين!
5- إن ترك الصراع الطبقى إلى نهايته سوف يلطخ التراب الوطنى بالنار والدم وسوف يؤدى لا محالة إلى الحرب الأهلية بين الفقراء والأغنياء..
وإذا وقعت الحرب الأهلية فى وطنٍ من الأوطان فى هذا العصر الذى تهب فيه رياح الحرب الباردة، فليس هناك ضمان يحول دون تدويلها، بواسطة التنافس والتسابق بين معسكرين دوليين وكتلتين عالميتين كل منهما فى الحقيقة عقيدة اجتماعية مسلحة.
ومثل ذلك حدث أمام عيون الناس فى أسبانيا.
تفاقمت فيها حدة الصراع الاجتماعى إلى حد الحرب الأهلية، ثم تحولت الحرب الأهلية إلى صراع دولى.. سياسى اجتماعى ميدانه أسبانيا.
واشتعلت أسبانيا كلها بالنار ونزفت دمها سنوات بعد سنوات.
وانتقل مصيرها من يد شعبها فأمسكت به موازين دولية خارج إرادته، ثم نزل الستار على المأساة الأسبانية بسيطرة قوى الفاشية فيها تعبيراً عن أوضاع عالمية لا علاقة للشعب الأسبانى بها.
بهذه المفاتيح فى يده، وبالتجربة والممارسة، وبثقة شعبية أسطورية فيه تأكدت خلال حرب السويس وبانتصارها - توصل جمال عبد الناصر إلى حلٍ جديد جعل من التجربة المصرية كلها ظاهرة بالغة الأهمية فى التحول الاجتماعى بغير عنف دموى، وفى التنمية الاجتماعية عن غير الطريق الرأسمالى.
استطاع أن يصنع شيئاً لا مثيل له فى غير التجربة المصرية... شيئاً أسميناه - وما أظننا شططنا - "بتأميم الصراع الطبقى"!
كانت عناصر هذه التجربة كما يلى:
1- سلطة وطنية تقدمية.
2- هذه السلطة تقوم باسترداد كل المصالح الوطنية المنهوبة للاستغلال الأجنبى (قناة السويس - البنوك - شركات التأمين - التجارة الخارجية، إلى آخره).
3- تتجه هذه السلطة بعد ذلك إلى تصفية مواقع الامتيازات الطبقية التى تراكمت فى ملكية الأراضى الزراعية، وفى ملكية الشركات الصناعية والتجارية التى تعيش على الحماية الجمركية وبألاعيب التحايل على القانون، وفى ملكية الأراضى العقارية.
هكذا صدرت قوانين الإصلاح الزراعى وقوانين تأميم البنوك ثم قوانين التأميم الواسعة فى يوليو 1961، ثم لحقت بها قرارات الحراسة وكانت تستهدف أصلاً مطاردة الثروات الفادحة التى استطاعت أن تفلت من قوانين الإصلاح الزراعى ومن قوانين التأميم فى يوليو 1961.
(ولقد أسلم بوجود بعض التجاوز فى قرارات فرض الحراسة فى مرحلة لاحقة، خصوصاً بعد سنة 1967، لكن التجاوز شىء يمكن تصحيحه، وأما المبدأ الأصلى فشىءٌ آخر لا يمكن الحكم عليه بغير المنطق الذى صدر منه).
4- إن السلطة الوطنية التقدمية راحت تندفع بعد ذلك إلى عملية تنمية اقتصادية شاملة عن طريق التخطيط فى نفس الوقت الذى كانت فيه تدير عملية إعادة توزيع واسعة النطاق تكفل نقل الثروة - القديمة بالتراكم والجديدة بالتنمية - باستمرار من متناول وسيطرة القادرين إلى متناول وسيطرة المحرومين..
وذلك عن طريق إتاحة فرص التعليم والعمل لأوسع الجماهير، ثم عن طريق مظلة الخدمات والتأمينات، ثم السيطرة على أسعار الغذاء ولو عن طريق الدعم، والسيطرة على أسعار الإسكان بعديد من الوسائل المتاحة بينها تخفيض الإيجارات فى المبانى القائمة والتدخل لتحديدها بلجان تقدير الإيجارات فى المبانى الجديدة.. إلى جانب المشاركة فى إدارة عملية الإنتاج وفى اقتسام فائض ربحها.
5- من هذا التركيب الاقتصادى الاجتماعى الفوار بالحيوية نشأت فكرة التحالف بين قوى الشعب العاملة، له السيطرة على وسائل الإنتاج وله السلطة السياسية التى يدير بها العمل الوطنى كله فى اتجاه التنمية الشاملة باستمرار وتذويب الفوارق بين الطبقات باستمرار أيضاً.
ثم أن هذا التحالف وحده هو الذى يستطيع أن يحمى الاستقلال الوطنى، ويسعى للوحدة العربية، ويحقق التضامن مع حركة الثورة الوطنية على كل أرض ومع كل شعب.
هذه هى العناصر الأصيلة فى التجربة، وبعدها يجىء السؤال:
- هل نجحت هذه التجربة عملياً.. أو هى لم تنجح؟!
أزعم أنها نجحت، وسوف أعدد أسباب ذلك فى ظنى فيما بعد، ولكنى أستطرد من هنا إلى نقطة متصلة بها مثارة فى مصر الآن بشأن مستقبل العمل السياسى عن طريق ما أسموه أولاً بلجنة المنابر، ثم عادوا فغيروا اسمه بعد ذلك إلى لجنة مستقبل العمل السياسى فى مصر!.
يتساءلون فى مصر الآن:
- "منابر داخل الاتحاد الاشتراكى ثابتة أم متحركة؟
أحزاب أو لا أحزاب؟".
ننسى الأصل أحياناً ونمسك بالشكل.
ننسى أن العمل السياسى فى النهاية تعبير عن حقائق اقتصادية اجتماعية بالدرجة الأولى.
ننسى أن الحزب هو فى حقيقته طليعة سياسية لطبقة اقتصادية اجتماعية، ولا يمكن أن يكون شيئاً آخر، لأنه لا يجتمع على الهدف الواحد إلا أصحاب المصلحة الواحدة.
وننسى أن صيغة التحالف بين قوى الشعب العاملة لا سند لها فى الحقيقة والواقع إلا فكرة إدارة الصراع سلمياً بين طبقات لا تتفاوت الفوارق بينها إلى درجة القطيعة، ثم إنها تسعى عن طريق التنمية وإعادة التوزيع - الكفاية والعدل كما كنا نسميها - إلى تذويب الفوارق بين الطبقات.
ومن هنا فإن الحقيقة الاقتصادية الاجتماعية هى التى تصنع التعبير السياسى عن نفسها وليس العكس.
وبالتالى فإن نجاح صيغة التحالف مرهون تماماً بما كنا نسميه "تأميم الصراع الطبقى".
وأخشى أن بعض ما يحدث فى مصر الآن سوف يؤدى - أردنا ذلك أو رفضناه - إلى ظهور أحزاب.
وليس ذلك شيئاً أدعو إليه كضرورة... وفى نفس الوقت فليس شيئاً أرفضه كمبدأ.
إن الأحزاب سوف تظهر لأن تأميم الصراع الطبقى يجرى فكه الآن فى مصر سواء كان ذلك بتخطيط مسبق أو كان فعل مصادفات ساقتنا إليها ملابسات.
لماذا؟
لأن طبقة جديدة تظهر الآن فى مصر نتيجة لما نطلق عليه سياسة الانفتاح، وتكدس بسرعة ثروات هائلة، وتبنى لنفسها مواقع متميزة باستغلال ظروف سانحة!
هذه الطبقة الجديدة مكونة من عنصرين:
- بقايا من عناصر الطبقة القديمة فى مصر، وهى ليست العناصر الأصيلة فى تلك الطبقة القديمة، وإنما جماعات كانت تعيش على هامشها وفى خدمتها.
- ثم جماعات وافدة جديدة هبطت عليها الثروة من السماء مفاجأة، وفى الحقيقة فإن غنى هذه الجماعات جاءها من مصدرين:
الأول: هو المضاربة فى الأراضى العقارية التى ارتفع سعرها بشكل فاحش فى مصر نتيجة لعوامل كثيرة.
والمشكلة فى الثروة الناشئة من المضاربة فى الأراضى العقارية أنها تصنع غنى فادحاً لدى بعض الأفراد بغير أن تضيف شيئاً إلى الثروة القومية للمجتمع!
والثانى: هو الاشتغال بعمليات السمسرة والتهريب الظاهرة أو المستترة وراء ألوان من النشاط مشروعة أو تبدو مشروعة وهى فى الحقيقة نوع من "الإباحية الاقتصادية"!
وتقدير الخبراء أن هناك خمسمائة مليونير جديد فى مصر خلال السنتين الأخيرتين - والرقم منقول عن تحقيق لهنرى تانر مراسل نيويورك تايمز فى مصر - وتقدير الخبراء أيضاً أن مائتين من هؤلاء جاءت ثرواتهم من الزيادة فى أسعار الأراضى العقارية، ثم أن باقى أصحاب الملايين الجدد جاءتهم الثروة عن الطريق الثانى... طريق الإباحية الاقتصادية!
والطبقة الجديدة تضغط ضغطاً فاحشاً على الاستهلاك إلى حد البذاءة... والطبقة الجديدة تضغط على القطاع العام كأنها تريد تكسير ضلوعه.
ثم أن الطبقة الجديدة هى القوة الحقيقية وراء الحملة الضارية على التجربة الوطنية التقدمية فى مصر.
تحاول هدم منجزات عبد الناصر حتى لا يبقى لها ذكر أو أثر، ثم تحاول الفصل بين عهده وعهد أنور السادات تتصور بذلك أنها تستطيع تطويق مسئوليته عن قيادة التجربة، وأخيراً تحاول تكبيل جماهير الشعب المصرى فى "عقدة ذنب" بحجة أنها ضيعت وعيها بانقيادها الأعمى لسحر جمال عبد الناصر!
والمشكلة أن الطبقة الجديدة لا يمكن ائتمانها على قضية من قضايا العمل الوطنى.
لا هى مؤتمنة على قضية التراب الوطنى، ولا هى مؤتمنة على قضية التحول الاجتماعى.
والطبقة المصرية القديمة الأصيلة - مثلاً - كانت فى ظنى أقدر منها وأشرف على الأقل فى قضية التراب الوطنى وإن جاز لنا أن نشك فى أمانتها على قضية التحول الاجتماعى.
لماذا؟
لأن تلك الطبقة القديمة كانت تعيش على ملكية الأرض الزراعية وكانت الأرض الزراعية تمنحها إحساساً بالانتماء إلى الطين المصرى.
وأما الطبقة الجديدة فليس لها فى مصر إلا أنابيب تتسرب منها الثروة وتتدفق أولاً بأول خارج مصر.
بل أن هذه الطبقة - فى معظم الأحيان - واجهة أو وكالة لمصالح أجنبية تعمل خارج مصر وليس لها هم إلا أن "تشفط" ما تستطيع أن تصل إليه فى مصر.
ومع نمو هذه الطبقة وتمركزها فى مواقع الاستغلال والامتياز الطبقى يوماً بعد يوم فإن بقية الطبقات فى مصر سوف تجد نفسها مضطرة إلى الدفاع عن مصالحها ولو اقتضاها الأمر أن تخرج عن صيغة التحالف التى تصبح فى تلك الحالة قيداً يجمد حركتها وليست إطاراً يتسع لها.
وإذن ينفك تأميم الصراع الطبقى...
وإذن تعود إليه الحدة والتوتر...
وإذن يزداد الخطر بمقدار ما تتسع الفوارق.
ويجرى اللعب بالكبريت قرب مخزن البارود.
ومع ذلك يتهم جمال عبد الناصر بأنه أشعل نيران الصراع الطبقى فى مصر، وبأنه أثار الحقد والبغضاء والحسد بين الأغنياء والفقراء.
وكان المتنبى هو الذى قالها قبل ألف سنة:
- وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء!!
0 comments:
إرسال تعليق