اعتمدت الصهيونية على مزاعم وأضاليل كثيرة ومتنوعة منها النصوص التوراتية وما ورد في برتوكولات حكماء صهيون، لتبرير هجرات اليهود إلى أرض فلسطين، واحتلالها من قبل العصابات الصهيونية الغربية.
شملت تلك المزاعم شتى المجالات، ولم يغفل المشروع الصهيوني العالمي الجانب التاريخي والجغرافي، لمنطقة بلاد الشام والمشرق العربي تحديداً. كما أنه ترافق جدلياً مع تجزيء البلاد العربية، فساهمت خارطة سيكس- بيكو، إسهاماً مباشراً في تقسيم الوطن العربي إلى أقطار، وصولاً إلى كيانات صغيرة داخل كل دولة، بهدف تفتيت الدولة الواحدة، ليسهل التحكم بها من جهة، وإعادة العرب إلى عصور النزاعات القبائلية والدينية والمذهبية من جهة أخرى، والمشهد العربي المتهاوي ماثل أمامنا بأكثر من قطر.
على الصعيد التاريخي، تم طمس الكثير من الحقائق، لصالح النص التوراتي (العقيدة- الأيديولوجيا)، فأغلق الكثير من مجالات البحث التاريخي، واعتبر هذا النص التخيلي، المرجعية الجوهرية لـ"أرض التوراة"، فساد التضليل والخلط بين مملكة بني إسرائيل المنقرضة، وبين الامبراطورية اليهودية الأولى عن عمد.
الذين احتلوا أرض فلسطين في العصر الحديث، ليسوا من سلالة بني إسرائيل ولا يمتون لهم بأية صلة، ولا إلى أتباع الشريعة اليهودية التي أُنزلت على موسى عليه السلام، إنما هم بقايا يهود الخزر ومتهودون استهوتهم سطوة القوة العسكرية ونزعة التوسع، وبعد القضاء على إمبراطوريتهم، تشتتوا في الغرب.
زعماء الغزاة الجدد وبالتنسيق مع الإمبريالية الغربية، اعتمدوا أرض فلسطين العربية لموقعها الإستراتيجي فهي قلب بلاد الشام، أو ما كان يُعرف بسوريا الكبرى، واعتمدوا تزييف النصوص التوراتية كمسوغات تاريخية ودينية، للبدء في مشروع بناء القاعدة العسكرية الوظيفية الصهيونية الشاملة ومراقبة المنطقة الجغرافية كلها، عبر شبكات جاسوسية ضخمة تديرها تلك القاعدة.
نفذ القسم الأول من المشروع وبدأ العمل على تطبيع وجود الكيان على صعيد الأنظمة والشعب العربي، وقد تمكن الكيان بدفع قوي من الإمبرياليات الغربية وعلى رأسها أمريكا، اختراق البلاد العربية، بعقد اتفاقيات السلام المزعوم، وافتتاح المكاتب التجارية والثقافية في عدد من الدول العربية، سراً وعلناً.
تجاوب معها الكثير من العرب، بتطبيع العلاقات على جميع الأصعدة، لتقبل "إسرائيل" على أنها أمر واقع، والأمثلة أكثر من أن تُحصى، ولعل الحديث عن (جنوب أو شمال وداخل "إسرائيل")، واستضافة العديد من "الإسرائيليين" على الفضائيات العربية، لمعرفة وجهة نظر هذا الآخر، والحديث عن "المحرقة" الأسطورة، التي يدعي اليهود أنها وجهت لحرقهم كمواطنين في بلادهم بأفران الغاز، التي لم تكن قد اُخترعت بعد، خطوة أخرى نحو تبلور مفهوم التصهين للاندماج الكامل بالمشروع، وذلك بصهر الوعي العربي الجمعي، ليس بتقبل الأمر الواقع فحسب، بل بالتماهي معه على أنه عصر الامبراطورية اليهودية الثانية، بالاستسلام الكامل ورفع الراية البيضاء.
آخر صرعة تقليد للجدار الفاصل في فلسطين المحتلة، لتجذر وتعميم المفاهيم الصهيونية، والمقتبسة من ذات النص المعتمد، بناء جدر إسمنتية وأخرى فولاذية بين حدود مخلفات الاستعمار القديم، ناهيك عن إقامة الحواجز في داخل المدن والقرى بفلسطين المحتلة، من قبل قوات الاحتلال، والموافق عليها من السلطة المحلية بما يُسمى التنسيق الأمني، تحت ذريعة ضرورة استتباب الأمن، ومحاربة المتمردين على (صناع سلام الشجعان).
من الأكاذيب الصهيونية الكبرى، سلطة الحكم الذاتي في فلسطين المحتلة، وابتداع شعار الديمقراطية، التي يستحيل أن تمارس تحت حراب الاحتلال، وقد جُربت واتضح فشلها، فهل يُلدغ المؤمن من جُحر مرات ومرات؟!، فضلاً عن الدعوة إلى تطبيق شعار العدالة، باقتسام أرض فلسطين بأي حل تسووي أو بديل عن التحرير، فشاعوا الشعارات وروجها العرب المطبعون وصدقها الكثيرون، وآخرون يعتبرها تكتيكات، ولكن تلك المناورات السياسية، ستضعف حتماً المجهود الموجه لأوليات التحرير، وستقضي على بقية المقاومين بالضفة والقدس المحتلة، وتقوي أركان الكيان الاستعماري.
إن تحديد القدس العاصمة الأبدية لـ"إسرائيل"، ليس عبثياً ومن الضرورة ترقب ما يجري تحت الأقصى وفوقه، وتنفيذ هدم الأقصى مجرد توقيت لا وقت لإعلان (الدولة اليهودية)، على كل أرض فلسطين، لإرساء قواعد تلك الإمبراطورية.
هذا إضافة إلى التمدد نحو مصر وبلاد المغرب العربي، عبر مشاريع مائية وتجارية وأمنية مشتركة ، ونحو شمال العراق المحتل، حيث بدأت بنشر قواعد عسكرية وشركات اقتصادية هناك، للتحكم بمقدرات وثروات الوطن العربي.
وسائل العدو ليس فقط شن الحرب بالسلاح الحي، بل بالاعتماد أيضاً على وسائل أخرى كالمنظمات الدولية الراعية للسلام المزعوم والمنظمات اليهودية والصهيونية المتوغلة في أروقة صنع القرار الغربي، والوسائل الإعلامية العربية صاحبة سياسة الباب الدوار، وأهمها الإعلام المرئي والشبكة المعلوماتية، وهذا السلاح ذو حدين، غايته مصادرة الإرادة وقولبة الفكر العربي، لصالح ذات المشروع.
على الصعيد التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وازدياد البطالة وما يؤدي إلى ارتفاع منسوب الجهل والأمية والجريمة والرذيلة والفساد السياسي والأخلاقي. كله يخدم السيطرة والتحكم عن بعد، بتفشي آفات اجتماعية قاتلة، ولا يجوز أن نغفل أمر استهداف وطننا العربي أولاً كمسرح للأحداث الجارية، وكقاعدة للمشروع الاستعماري.
رغم كل ما يحدث من صراعات داخلية سياسية وعسكرية وتأجيج نزاعات دينية وطائفية بهدف الانفصال في الأقطار العربية، فما زال هذا الكيان في طور النمو الإمبراطوري، وانكماش المشروع وتقهقره، يعتمد بالدرجة الأولى على ما أنجزته وتنجزه المقاومة العربية على جميع الجبهات، ولهذا الدعوات المضادة لضرب المقاومة وشيطنتها وتسفيه الصمود، مستمر.
المقاومة ليست في حقبة التحرير الشامل، إنما تسعى لبناء صرح متين على قاعدة إستراتيجية راسخة وثابتة، لتحقيق التوازن في شتى المجالات، وتفكيك قواعد اللعبة الاستعمارية باستنزاف قدرات جيش العدو، فما تم بناؤه من عقود طويلة من قبل صهاينة الغرب، لا يمكن هدمه بين يوم وليلة...
بالإضافة أن المقاومة المسلحة كر وفر ومد جزر، وعملية تراكمية، ولا بد من إعادة تأهيلها واستعداداتها بعد كل جولة، وتنمية قدراتها وأيضاً على جميع الأصعدة.
في غزة الصمود، لولا ثبات المقاومة، لما التف الشعب حولها، رغم حصار من كل الجهات براً وبحراً وجواً منذ سنوات، لمليون ونصف المليون من الشعب الفلسطيني، رغم شح المواد الأولية لتصنيع السلاح. وفي انتصار عام 2006، أيضاً ساند الشعب وأحزابه وحتى الحكومة، على الأقل بعدم شن هجمة علنية مضادة أثناء الحرب على المقاومة وتخوينها، واستطاعت المقاومة الإسلامية وشعبها في لبنان الصمود، والأهم قلب المعادلة من جيش لا يُهزم إلى قيادة سياسية وجيش مرتبك وخائف من الخوض بمغامرة أخرى، ترديه صريع أوهامه ومزاعمه. المقاومة في العراق المحتل، كبدت القوات الغازية خسائر فادحة في المعدات والجنود، وهو تفسير عملي لتراجع وتجميد المشروع المسمى "الشرق الأوسط الجديد"، وما هو بالحقيقة إلا تلك الإمبراطورية الممتدة في فضاءات القارات.
بالمحصلة، هم يبنون ومقاومتنا العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية، تهدم بيت العنكبوت الهش، المبني على مجموعة اختلاقات وأضاليل وأباطيل. معركتنا طويلة ودرب الحرية معبد بالدماء والتضحيات، جيل بعد جيل، فمن تعب، يسلم الراية لغيره، وهكذا دواليك، فاستعادة الأوطان حرة لا تُقدم على طبق من ذهب، ومِنة من المحتل.
يلفظ البحر الطحالب والقذورات العالقة، وفي أعماقه الدرر، والمعادن النفيسة في باطن الأرض، أغلى بكثير مما يوجد على السطح. هذا ليس كلاماً شاعرياً ولا بلاغة رومانسية، إنما مشاريع لهذه اللحظة غير ملموسة، ولكنها تعمل بعيداً عن الأضواء والظواهر الصوتية بهدوء وتأني، فالمعركة الحاسمة، قادمة برايات مختلفة الألوان والأطياف، مهما حاولوا إطالة عمر هذه الإمبراطورية.
0 comments:
إرسال تعليق