كان عصام شابا متميزا حكيما ،لم يتجاوز الأربعين من العمر ،طيب القلب دمث الخلق ،صاحب بديهة حليما ،أهّلهذلك ليكون قاضيا يفض النزاعات بين الناس وكان هو القاضي الوحيد الذي يحتكم إليه سكان جبل التنور في المنطقة الجنوبية من مدينة الأحلام ،أما زوجته الجميلة مريم التي تنحدر من قرية الزهور فكانت تثيره وتغضبه أحيانا ،بالرغم أنه يحبها ،ويدللها ،ولا يعنفها ،نتيجة حشريتها وتدخلاتها الدائمة في كل شيء بحياته،حتى تلك القضايا التي كانت تعرض عليه ،كانت تتدخل بها وتسأل دائما الاسئلة الصعبة التي يكرهها هو ، من؟ ولماذا ؟واين ؟؟وكيف ؟وغير ذلك من الإستفسارات والتساؤلات ،وفي كل مرة يجيبها على مضض كي يرضيها ،بالرغم أنه كان قد أخبرها في أكثر من مرة أن لا تتدخل بشؤون عمله وخاصة في القضايا المتعلقة بالناس من حوله ،والذين يعرفونه بعدله وحكمته ورجاحة عقله في التعامل مع كافة القضايا التي تعرض عليه دون تمييز أو تحيز لعرق ونسب وجاه ،وكان عصام من شدة حبه لمريم لا يوبخها أو يدفعها لتأخذ منه موقفاً سلبيا ،فيرد عليها بسعة صدر ورحابة قلب ولطف فائض كي يحافظ على خيط الود وعلاقة الحب التي تربطهما ببعض ،زوجين متحابين ،ولقد كانت هي أيضا تحبه ولكنها تمتاز بكثرة الإلحاح والسؤال مما يغضبه .
وذات مرة ،هددها وقال بعنف :آخر مرة تسألين بأمر لا يخصك ،وإن تدخلت أو سألت عن أي قضية ،فسأرجعك لبيت أهلك ويكون الفراق بيننا ،وذكرها بما طلبه منها ليلة زفافهما بعدم التدخل في عمله وأسرار الناس وقضاياهم مهما كان السبب وقطعت له عهداً بذلك ،وكانت كلما سألته عن بعض الأمور الخاصة بعمله ،يذكرها بما قطعته من عهد له بعدم التدخل في شؤون عمله .
وكان كلما حضر أحد من سكان القرى المجاورة يحتكمون عنده في كثير من الأمور الخاصة بالنزاعات والأملاك وغيرها كانت تدخل للمطبخ وتشغل نفسها كي لا تسمع ما يدور بين زوجها والزوار القادمين به .
وفي يوم من الايام حضر شابان متنازعان على أرض فيما بينهما ورثاها عن والدهماوأراد كل منهما أخذ البئر التي يتوسطها ضمن حصته ،وقفا أمام بيت القاضي من الخلف عند نافذة المطبخ فسمعتهما مريم وهما يحتدان في الحوار حول البئر قال أحدهم البئر ضمن أرضي ،وقال الثاني وأنـا كذلك البئر يقع بالنصف فهو من حقي والقاضي عصام سيحكم بالعدل بيننا ،قال لا تكن طماعاً النصف الاكبر من البئر ضمن حصتي ،وقال أخوه :القنوات التي توزع الماء منه تنساب بأرضي فهو من حقي ،قالت مريم لما علا الصراخ ،،الآن زوجي القاضي سيجد حلا لكما ،تفضلا سيحضر بعد قليل من السوق فلقد ذهب ليحضر أشياءنا الضرورية .
واضافت :إنتظرا هنا في الخارج ريثما يحضر القاضي زوجي عصام،بعد لحظات من الإنتظار وصل القاضي إلى البيت ،واستقبلته كالعادة مريم بالتهليل والترحيب ، وقد بدت على محياه علائم الإرهاق و التعب من المسير مشيا على الاقدام في حر الصيف، فاسرعت زوجته مريم تمسح عرقه وتدعوه للجلوس والراحة ،وذكرت له أمر الشابين خارج المنزل ،فسألها هل تحدثت إليهما ،فأنكرت وقالت أخبرتهما فقط أن ينتظراك لبعد منزلهما عن منزلناوقد فعلا ،، قال :حسناً دعيهما يدخلا الديوان ريثما أغير ملابسي .
فتحت مريم نافذة المطبخ وطلبت منهما الدخول من الباب الأمامي إلى الديوان بإنتظار زوجها ،وفعلاً هي لحظات حتى جاء القاضي عصام ،وقد سلم عليهما وطلب منهما الجلوس قربه وطلب منهما أن يرويا له الحكاية من أولها ،فقال الاول نحن أخوين من أم واب مات والدينا وورثنا أرضا يتوسطها بئر ماء وتنازعنا على ملكية البئر ،بأن تكون لمن هي من حقه ،وأخذ هو النصف وأنا النصف ووقع البئر بين حصتينا الإثنين وأنا أقول هو لي لأنه يدخل بأرضي أكثر منه وهو يقول أنها من حقه حيث تتفرع منها قنوات تتوزع على الارض تروي الأشجار المزروعة في الارض .
قال القاضي الأمر مختلط ،ويحتاج لدراسة وتفكير مطول ،إذهبا الآن وغدا أفكر وارد عليكم،واحبذ أن تتفقا قبل أن اصدر حكمي فيدم أحدكما عما قد لا يرضيه ،فضحك الأخوان وخرجا وهما يؤكدان للقاضي عصام بأنهما سيرضيان بأي حكم يصدره في القضية،وبعد خروج الشابين سألت زوجها عن الحكم الذي قضى به لهما فأجابها غدا أرد عليهما الآن أنا مشوش وتعبان من مشوار السوق ،فقالت له البئر من حق الأخ الاكبر لإنه يقع في الجزء الأكبر من أرضه ،فقال عصام وكيف عرفت ؟؟قالت كنت أعمل بالمطبخ وهما يتنازعان ويتصارخان ولم أقصد أن استرق السمع لكن صوتهما كان عالياً فسمعتهما ،فقال: حسنا إعلمي أنه لا شأن لك بهما وإن علمت بأي تدخل منك نفذت ما أخبرتك به،فقالت مريم :يا زوجي البئر في أرض الكبير وهو مسؤول عن السقاية إحكم له بها فقال بغضب :لا لا لا غير معقول ؟انت مصرة حسنا اليوم لا تبقي هنا ،سأخرج هؤلاء الشابين وأنهي الحديث معهما وأوصلك لأهلك ،فبكت مريم وتوسلت لكن عصام بقي مصرا وقال لها جهزي نفسك حين أنتهى منهما ،هيا لا أريد أن اسمع صوتك ،خرج القاضي إلى الشابين وقال لهما الارض بالنصف لكما وكذلك البئر ،تتناصفان السقاية وتهتمان بما ورثتماه عن أبيكما لتحفظا ما خلفه لكما وتقوما بما كان يقوم به في حياته ،دون نزاع أو شقاق ،السقاية مناصفة وكذلك مياه البئر دون نزاع ،وتراضيا وتعاهدا أمامي على ذلك هيا وإياكما أن تعودا مختلفين على هذا الأمر هيا إذهبا ،وبدا الرضا على وجه الأخوين وغادرا بيت القاضي ،عاد هو إلى زوجته وقال لها لقد إنتهيت منهما ،،هيا هل جهزت أشياءك ،،قالت له بتوسل ،إسمح لي أن أطبخ لك وأطعمك لآخر مرة ،وان آحمل معي أغلى شيء عندي بالمنزل لبيت ابي ،،رق قلب عصام وشعر بالحزن والأسى عليها، وقال لها :حسنا لك ذلك في المساء أذهب بك لبيت أهلك ولن تعودي لهذا البيت ،،هيا إذهبي لطهي الطعام .
دخلت مريم المطبخ وطبخت لزوجها ما لذ من الطعام الطيب الذي يحبه زوجها وجهزت المائدة وجهزتها وبدأت تقدم لزوجها الطعام اللذيذ ،وهو يحب طهيها وبأكل من يدها حتى إمتلأت معدته ،ومن شدة التعب بعد أن أمتلأت معدته ،غلبه النعاس ،ونام على الكرسي الذي كان يجلس عليه ،فأحضرت حبلاً وقيدت زوجها به ،وطلبت من حارس المنزل أن يحمل زوجها بالكرسي إلى العربة التي ستقلهما لبيت أبيها ووضعته بها ،وسارت به هناك ،وهو غارق في نومه ،ولم يشعر بشيء مما قامت به زوجته مريم ،ووضعته في غرفة نومها عند اهلها ،ونام هانئا حتى الصباح في غرفتها على سريرها في منزل أبيها ، وهي تراقبه ،فأستيقظ من النوم ووجد نفسه في غرفة غير غرفته ،ومكان لم يألفه ،ووجد زوجته تجلس على المقعد مقابل السرير وقد غلبها النعاس هي الأخرى ،فنهض من السرير وأسرع نحوها،فأستيقظت مريم فزعة حين رأته أمامها مستيقظا ،وصرخ بها قائلاً كيف وصلت أنا هنا ؟؟فقالت وهي ترتجف خوفا منه أن يطلقها لإنها حملته دون علمه ورغم إرادته :ألم اقل أني سآخذ أغلى شيء عندي بالبيت معي عند خروجي وأنت وافقت ،وأنت أغلى شيء عندي ،فحملتك معي إلى بيت اهلي ،أبتهج قلبه حين سمع ذلك وشعر بالفرح وقال لها وأنت أغلى شيء عندي ،لكن عديني أن لا تتدخلي بشؤون عملي ولا تقحمي نفسك بما لا يعنيك ،وسنعود سوية للبيت ،رقص قلبها من الفرح وأسرعت تخبر والديها بما أخبرها زوجها ،ومنذ ذلك اليوم التزمت مريم حدودها ،وما عادت تزعج زوجها بإلحاحاتها وتدخلاتها ،وعاشا سعيدين بسلام وآمان مستقرين يحب كل منهما الآخر ويعمل ما لا يزعجه ويرضيه بالدنيا .
إنتهت .............
0 comments:
إرسال تعليق