الحديث الثالث
أفهم تماماً لماذا تحاول بعض قوى السيطرة العالمية - ولأغراضها - أن تشوه التجربة المصرية التى قادها جمال عبد الناصر، ولكنى لا أستطيع أن أفهم - حقيقة - أسباب مسايرة بعض عناصر النظام المصرى الحاضر، بل وحماستها الزائدة أحياناً لتشويه هذه التجربة...
وأريد الآن أن أناقش هذه المسألة، وأريد أن أناقشها منطقياً بغير انفعال، وبغير تعصب، وبغير عاطفة!
أسأل نفسى والآخرين: كيف ولماذا؟
وأطرح هذا السؤال، وفى ذهنى - وفى ذاكرة غيرى - سياق متصل من الحقائق والمواقف، سلسلة مترابطة حلقاتها، ممتدة من الأمس إلى اليوم وإلى الغد!
أولاً - لقد وقف الرئيس أنور السادات أمام مجلس الشعب قبل أقل من سنة وقال بالحرف:
"إن الذين يتصورون أن الثورة ثورتان وأن العهد عهدان يقعون فى خطأ كبير".
وهذا الكلام من الرئيس السادات واضح، ثم إنه حقيقى إلى أبعد حد، فلم يكن أنور السادات شخصاً عادياً فى نظام عبد الناصر، ويكفى أن نتذكر المسؤوليات والمناصب التى تولاها من عضو فى مجلس الثورة إلى رئيس لمجلس الشعب إلى نائب لرئيس الجمهورية...
وكان كل رؤساء الوزارات الذين اختارهم أنور السادات فى مدة ولايته وحتى الآن أقطاباً فى عهد عبد الناصر: محمود فوزى رئيس الوزراء قبل 15 مايو 1971 وبعده إلى نهاية تلك السنة، ثم عزيز صدقى من بداية 1972 إلى منتصف 1973 حين شاء الرئيس أنور السادات نفسه أن يتولى رئاسة الوزراء استعداداً للمعركة، ثم عبد العزيز حجازى بعد حرب أكتوبر ومع محاولة التوجه للانفتاح بعدها.
ولو نظرنا إلى قمم السلطات فى الوضع الراهن كله لتأكدت لنا هذه الحقيقة:
- أنور السادات فى رئاسة الدولة وهو الوحيد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذى بقى إلى جوار عبد الناصر وبالقرب منه من البداية إلى النهاية.
- سيد مرعى فى رئاسة مجلس الشعب وقد كان فى قمة الجهاز التنفيذى منذ أشرف على تطبيق قانون الإصلاح الزراعى سنة 1952 حتى أصبح وزيراً للزراعة ونائباً لرئيس الوزراء ومسؤولاً عن التنمية الزراعية فى مصر كلها إلى يوم 28 سبتمبر 1970 وبعده.
- ممدوح سالم فى رئاسة الوزارة وقد كان من نجوم جهاز الأمن فى عهد عبد الناصر، بل إنه لسنوات طويلة كان مسؤولاً عن أمن جمال عبد الناصر نفسه فى كل رحلاته خارج مصر.
ثانياً - "إن أنور السادات لم يتوقف عن القول، وبطريقة قاطعة، بأنه مسؤول مع جمال عبد الناصر فى كل قرار - ولم يكن أنور السادات ليقول بذلك ويقطع به لو أنه لم يكن صحيحاً..
وفضلاً عن ذلك فلقد كان أنور السادات هو الرئاسة الثانية دستورياً فى مصر بعد عبد الناصر بحكم رئاسته لمجلس الشعب معظم سنوات عهد عبد الناصر، وحين ترك رئاسة مجلس الشعب فقد ولى بعدها منصب نائب رئيس الجمهورية وهو الرئاسة الثانية عملياً فى أواخر عهد عبد الناصر، وحين قدم أنور السادات نفسه إلى الأمة بعد عبد الناصر لرئاسة الجمهورية فلقد كانت أول كلمة قالها:
"لقد جئت إليكم على طريق جمال عبد الناصر".
وهذا كلام ليس فيه ما يحتمل اللبس، وأن يحاول بعض الناس تفسيره بردّه إلى تمسك الرئيس السادات "بأخلاق القرية" فحجة واهية آن أن يعرف أصحابها أنها تسىء إلى أنور السادات قبل أن تسىء إلى جمال عبد الناصر!
كان أنور السادات مسؤولاً بالممارسة... أو كان مسؤولاً بالصمت..!
وقد رفض الرجل بشجاعة وأمانة حجة المسؤولية بالصمت، وأعلن أنه اشترك مع جمال عبد الناصر فى "رسم كل سياسة واتخاذ كل قرار".
ثالثاً - ولربما يقال:
- نظام يريد أن يحاكم نفسه.. أليست هذه آية الضمير الحى؟.
ولكن أى محاكمة لا بد لها من قانون، ولا بد لها من قضاة، ولا بد لها من شهود، ولا بد لها من رأى عام يملك وسائل أن يتابع ويراقب.
وفى محاكمة نظام سياسى فإن إيجابياته يجب أن توضع إزاء سلبياته لكى يكون هناك ميزان ترجح فيه كفة وتخف فيه كفة أخرى.
وهذا كله غير موجود فيما يجرى الآن فى مصر.
لا قانون ولا قضاة ولا شهود، ولا رأى عام يملك وسائل المتابعة والمراقبة.
ثم إنه ليس هناك ميزان للسلبيات والإيجابيات...
كل ما يقال فى مصر الآن، وبغير ميزان، لا تظهر منه غير السلبيات كئيبة كلها ومظلمة... عشرون سنة متصلة من الظلم والفساد!
ليكن..!
ليكن إنها كانت كذلك كلها، لم يتخللها شعاع ضوء، ولم تظهر خلالها مواقف مجد وشرف...
ليكن..!
لكن معنى القول بذلك هو إدانة النظام الذى حكم مصر منذ 23 يوليو 1952 إلى اليوم...
إدانة بالكامل... إدانة لا تستثنى أحداً ولا تبقى على شىء.
وإذن يذهب النظام كله من أوله إلى آخره بلا أسف ولا أسى، فالوطن والأمة أولى من أى نظام وأبقى من أى حكم.
ولقد أضيف إلى هذه النقطة ملاحظة أتساءل فيها:
- ومع ذلك فهل النظام هو الذى يحاكم نفسه بنفسه اليوم ويقوم بتجربة فى النقد الذاتى... آية من آيات الضمير الحى؟!
أم أن الذين عادوه وعاداهم - بصرف النظر عن الأسباب - هم الذين يحاكمونه الآن ويكتبون القانون وينصبون المحكمة ويجيئون بالشهود ويوجهون الادعاء؟!
أليس مشهداً غريباً أن تقف الثورة متهمة أمام الثورة المضادة وأن يحدث ذلك بغير انقلاب؟!
رابعاً - ولقد يعترض على أحدهم ويقول:
- "ذلك تطرف لا مبرر له، وهو قفزة من النقيض إلى النقيض...!
وهل نقبل ما كان فى النظام كله على علاته لا نناقشه، أو يكون البديل إسقاط النظام من أساسه بغير مناقشة؟".
ولعلى آخر من يقول بذلك، وشاهدى فى ذلك ما كتبته فى نقد ممارسات النظام فى حياة جمال عبد الناصر نفسه، فلقد كتبت وأفضت فى الكلام عن تجاوزات وقعت فى كثير من المجالات...
ولخصت رأيى يوماً فى نقد النظام بأنه "يعتمد أكثر مما يجب على سلطة الدولة فى الداخل، وأكثر مما يجب على قوة الدولة فى الخارج"، وما زال ذلك نقدى الأساسى لعهد جمال عبد الناصر، وربما لم ينس الناس أن أول محاكمة "لمراكز القوى فى مصر" - وبهذا الوصف نفسه - جرت فى عهد عبد الناصر..
ولعلى لا أتجاوز حدى إذا قلت أننى المسؤول عن صك عبارة وردت فى خطاب جمال عبد الناصر أمام مجلس الأمة الذى انتخب على أساس دستور سنة 1964 - والذى رأسه أنور السادات - والتى كان نصها "أن سيادة القانون لابد لها أن تعلو على مراكز القوة".
وإذن فإنى آخر من ينكر حق وواجب أى نظام فى تصحيح مساره.
ولكنى أفرق بين التصحيح وبين الإدانة الكاملة والنهائية.
التصحيح ليس ثورة جديدة، ولا هو ثورة مضادة.
ولكن التصحيح عملية إزالة شوائب لحقت بالعمل الوطنى أثناء ممارسته اليومية لمبادئه الأصيلة وإستراتيجيته المتصلة.
وبالتالى فإنها ليست بداية جديدة، وإنما هى دفعة مضافة.
ومن هنا مثلاً فإننى - مع اعتزازى الشديد بالدور الذى قمت به شخصياً إلى جانب أنور السادات فى الأحداث التى وقعت فى مصر خلال شهر مايو 1971 - لا أعتبر أن 15 مايو كان ثورة جديدة فى مصر.
ولعلى واحد من الذين يرون الإصرار على اعتبار يوم 15 مايو بداية ثورة جديدة بدأ بها عهد أنور السادات، ظلماً لأنور السادات وإساءة إليه قبل أن تكون الإساءة لغيره.
معنى ذلك ببساطة أنهم يأخذون من أنور السادات مجد منجزات شارك فيها، وهى من أرصدة قوته، ومن منجزات الثورة التى يحمل اليوم علمها.
معنى ذلك ببساطة أنهم يأخذون من رصيد أنور السادات أمجاد 23 يوليو، والإصلاح الزراعى، وإعلان الجمهورية، وكسر احتكار السلاح، ومعركة مقاومة الأحلاف، وحروب تصفية الاستعمار، وتأميم قناة السويس، وحرب السويس العظيمة نفسها، والتصنيع، والتحول الاشتراكى، والتصدى لمسؤولية الوحدة العربية، وبناء السد العالى، وقيادة حركة الثورة الوطنية، وتيار عدم الانحياز، وإنشاء منظمة الوحدة الأفريقية، وعودة بترول العرب للعرب، إلى آخره... إلى آخره.
ولقد مرت أيام مثل يوم 15 مايو فى حياة دول وشعوب غيرنا، ولكنها بقيت فى نطاقها... عملية تصحيح فى مسار العمل الوطنى لا أكثر ولا أقل. وعلى سبيل المثال فإن سقوط "بريا" فى الاتحاد السوفيتى لم يكن بداية ثورة جديدة.
وسقوط "رانكوفيتش" فى يوغوسلافيا لم يكن بداية ثورة جديدة.
وأخيراً فإن سقوط "ويليام كولبى" مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وسقوط سطوة المخابرات معه لم تحفز أحداً لكى يقترح على الرئيس "جيرالد فورد" أن يكون إخراج "كولبى" إعلاناً لقيام الجمهورية الأمريكية الثانية!
مراجعة التجربة إذن مطلوبة، والتصحيح بعدها حق، لكن التصحيح يبدأ من التسليم بأن القاعدة سليمة والاستراتيجية صحيحة، ولكن التفاصيل تجاوزت أحياناً، والممارسات شطت عن الطريق فى بعض المرات... وإذن وقفة... وإذن عودة إلى الطريق.
لكن ما يحدث فى مصر الآن ليس كذلك!
إنه إدانة كاملة ونهائية كما قلت...
ليست وقفة ولكنها محاولة اغتيال لكل ما كان.
وإذا كانت عودة فهى ليست عودة إلى الطريق، ولكنها: عودة عن الطريق، عودة إلى ما قبل 23 يوليو 1952!
خامساً - ويقول بعضهم، وذلك يقال فعلاً؟ لماذا نعقد الأمور؟ ولماذا نرى فيها ما ليس فيها؟
لماذا لا ننسب ما نراه الآن فى مصر إلى صحافة حصلت على حريتها أخيراً فشط بها القول من منطق التجربة والخطأ؟! وكان مناى أن لا يستعمل الادعاء بحرية الصحافة فى هذا الصدد للأسباب التالية:
1- إن الصحافة فى مصر ما زالت مملوكة للاتحاد الاشتراكى - وهو بوضعه - سابقاً ولاحقاً لكى أكون منصفاً - جهاز من أجهزة السلطة فى مصر.
2- إن القيادة السياسية مارست حقها - وهذا مشروع فى الأوضاع الراهنة - وأجرت تغييرات شاملة فى القيادات الصحفية اطمأنت بها لوضع العناصر الأكثر تعبيراً عن سياساتها ووجهات نظرها على مفاتيح التوجيه العام فى مصر.
3- إن القول بوجود حرية صحافة فى مصر هو - عملياً - ضرب من الوهم أو الإيهام، والدليل عليه قائم كل يوم فى الصحافة المصرية. وكل صحفى فى مصر يعرف على سبيل المثال أن هناك مكتباً رسمياً يبلغ الصحف كل يوم بقائمة ما لا يجوز نشره.
وكان من الممنوعات فى وقت من الأوقات نشر أية تفاصيل عن فضائح "ووترجيت" التى أدت إلى سقوط ريتشارد نيكسون، ولم يسمح بالنشر فى هذا المجال وفى أضيق نطاق إلا عندما بدا أن نهاية ريتشارد نيكسون محتومة.
وكان من الممنوعات - ولا يزال - نشر أى شىء عن تفاصيل التعهدات السرية التى أعطتها الولايات المتحدة لإسرائيل ملحقة باتفاقية سيناء الأخيرة. ولا أريد تأدباً أن أخوض فى عينات من الممنوعات الأخرى!
وإذن فإن هناك يداً تمتد بالحظر والإباحة.
ويبدو غريباً جداً فى رأيى أن تكون هناك حصانة مقدسة لريتشارد نيكسون - وأن تكون هناك استباحة كاملة لجمال عبد الناصر.
وأرد نفسى عن أية تفاصيل أكثر من ذلك فى مسألة حرية الصحافة فى مصر والتعلل بها فى حملة التشويه والتشويش الجارية الآن فى مصر. ومع ذلك فلا أستطيع أن أترك هذه النقطة دون إشارة إلى ظاهرة من أهم الظواهر الصحية فى مصر المعاصرة.
ذلك أنه إذا كانت الصحافة العامة فى مصر تشترك - واعية أو ساهية - فى اغتيال شخصية جمال عبد الناصر - فإن هناك صحافة أخرى تخوض معركة ضارية وباسلة دفاعاً عنه... دفاعاً عن المبادئ الأصيلة فى تجربته، وتلك هى صحافة الشباب... جرائد الحائط المعلقة بالمئات فى أنحاء الجامعات المصرية، إلى جانب الصحف التى تصدرها اتحادات الطلاب أو جماعات الشباب.
وتلك شهادة لعبد الناصر.
رواسب الماضى تحاربه، وطلائع المستقبل تحارب معه!
سادساً - ومع ذلك فإن صدقنا ما يقال عن "انفلات" الصحافة العامة فى مصر، فهل الحملة ضد عبد الناصر - حملة الإدانة الكاملة والنهائية - قاصرة على هذا النطاق؟
الحملة أوسع وفيها ما يلفت النظر.
فيها خطابات رسمية تلقى فى مناسبات عامة وهى الأخرى إدانة كاملة ونهائية.
فيها مطبوعات ومنشورات صادرة عن أجهزة رسمية للدولة وهى الأخرى إدانة كاملة.
فيها إذاعات مسموعة وإذاعات مرئية وأفلام سينمائية لا تفعل كلها غير تكريس إدانة التجربة من أولها إلى آخرها وبطريقة ساحقة ماحقة!
ألخص آرائى فى النهاية لكى لا يكون هناك لبس:
1- فى تجربة عبد الناصر كثير يستحق النقد ويستوجب التصحيح، شأنها فى ذلك شأن أى تجربة إنسانية ضخمة وهائلة، والفرز ضرورى، والتقويم حق، والتصحيح واجب.
2- لقد ناديت، وما زلت أنادى بضرورة التحقيق النزيه فى كل جوانب التجربة حتى يظهر وجه الحقيقة، وقلت وما زلت أقول أن إطلاق التهم بغير تحقيق لن يؤثر فى عبد الناصر بقدر ما يؤثر فى وجدان الشعب المصرى لأنه يفقده الثقة فى كل شىء، وليس هناك كائن حى... فرداً كان أو شعباً... يستطيع أن يعيش ويكافح إذا سقطت فى خياله كل المثل، وكيف يمكن لشعب مصر مثلاً أن يثق بنفسه إذا ظل بقية حياته مع الشكوك القاتلة: فلقد كان جمال عبد الناصر فى اعتقاده بطلاً وطنياً وقومياً رفعه فى حياته على كل الرؤوس وشيعه عند رحيله فى بحر من الدموع... أفلا يملك هذا الشعب أن يعرف أخيراً كل الحقيقة ولا شىء غير الحقيقة فى أمر مثل هذا الرجل؟
هل كان البطل "جلاداً سفاحاً" كما يصورونه اليوم؟
هل كان المناضل "لصاً مهرباً" كما يصورونه اليوم؟
هل كان القائد "قاتلاً مع سبق الإصرار"... دس السم لطبيبه الخاص الدكتور أنور المفتى... ورتب كميناً بقنبلة مدفع -!- للفريق عبد المنعم رياض وهو الذى كان يدخره لمعركة التحرير التى يخطط ويستعد لها؟ أو ليس ذلك بعض ما قيل بغير تدقيق أو تحقيق؟
3- إذا كانت نتيجة التحقيق كله إدانة كاملة ونهائية لنظام عبد الناصر فمن الذى يتمسك بالنظام كله من أصوله إلى فروعه، أو ليس الوطن والأمة أولى وأبقى من أى نظام؟!
هذا هو رأيى وتظل عندى بعده ملاحظة أخيرة.
إننا لم نفعل ما فعلناه بأنفسنا فقط، وإنما أسأنا إلى أمتنا العربية كلها، وكنا بمثابة من يقول لها:
- لا تعتمدى فى شىء على مصر... فليس لدى مصر إلا قناع الخداع.. لماذا؟
لأن الأمة العربية أمامها خياران:
- أن تصدق ما يقال الآن فتحكم على مصر من 23 يوليو 1952 حتى 15 مايو 1971.
- أو أن ترفض تصديق ما يقال الآن فتحكم على مصر بعد 15 مايو 1971 حتى هذه اللحظة!
ومصر خاسرة فى الحالتين... وكذلك الأمة العربية..
كلاهما بين الضحايا...
ومن الجانى؟
هذا هو السؤال؟!.
0 comments:
إرسال تعليق