من مفارقات "الربيع العربي" الذي اقتحم بلادنا في السنة الفائتة ان الثورات العنيفة قامت في الدول التي وقعت تحت حكم الديكتاتوريات "التقدمية" و"الممانعة"، وقد اكتشف أبناء هذه البلدان مدى الغربة بين الشعارات التي رفعت للاستيلاء على السلطة والإمساك بها في ما بعد والواقع الذي كشف عن تحول هذه الديكتاتوريات جمهوريات وراثية سماها البعض "جملكيات"! والحال ان الجمهوريات المذكورة شكلت خلاصة الرجعية فيما كانت الأنظمة الملكية الموسومة بالرجعية تحقق خطوات متقدمة على صعد عدة، وان لم ترق الى خطوات تغييرات حقيقية.
في مطلع السبعينات، أقام حافظ الاسد نظاما ديكتاتوريا بامتياز، وانتهج العنف الفائق، للمحافظة عليه وتدعيمه في وجه كل محاولة لإضعافه... وقبل وفاته ببضع سنوات أسرع في تحويل النظام الى الوراثة بتهيئة ابنه باسل، ثم أخيه بشار لخلافته، وقد جعل من سوريا مملكة صمت كبيرة، كان أول الشهداء كمال جنبلاط يسميها "السجن العربي الكبير". وقد صارت سوريا في اقتناعه "سوريا الاسد"، بمعنى أن الاسد الأب اقتنع بأن البلاد صارت من فرط سيطرته عليها، ومن فرط استقرار نظامه، ملكا يمكن ان يورثه لابن اول، ثم لابن ثان بعد وفاة الاول. هكذا ورث بشار بلدا بأهله وأتى الى السلطة محاطا ببطانة عائلية وعشائرية وأخرى انتهازية من وسط المال والاعمال.
وبقي محكوما بفكرة ان سوريا هي "سوريا الاسد" حتى نهاية كانون الثاني ٢٠١٠ يوم قال لصحيفة "وول ستريت جورنال" ان سوريا هي غير مصر وتونس، وان ما يميزه عن بقية الأنظمة العربية انه محبوب وانه قريب من تطلعات شعبه! ولم تمض بضعة أسابيع حتى انفجرت سوريا في وجهه. ولا حاجة الى التذكير بكم الحماقات الإجرامية التي ارتكبت، والتي أدت الى موت "جمهورية حافظ الاسد". في الموقف التاريخي الذي أعلنه الملك عبد الله بن عبد العزيز في مهرجان الجنادرية في شأن القتل في سوريا مشيرا بشكل غير مباشر الى "الفيتو" الروسي الذي أباح للأسد مواصلة القتل بلا هوادة، إشارة واضحة الى رفض حازم وحاسم للنهج الذي ينتهجه بشار الأسد في سوريا، والقائم على القتل ردا على إرادة التغيير والتحرر التي يناضل من أجلها شعبه منذ أكثر من سنة. أكثر من ذلك، فإن الموقف غير المسبوق يقوض الأسس التي قامت عليها "جمهورية حافظ الاسد" الوراثية، ويجعل من الإجماع العربي قوة ضاربة في مواجهة القتل المجنون الممارس في سوريا من أجل إحياء نظام مات منذ وقت طويل!
إنها لشجاعة كبيرة من العاهل السعودي أن يرمي بكل ثقله وثقل المملكة العربية السعودية الى جانب ثورة الحرية والكرامة في سوريا. فالموقع الروسي اليوم يتجه صوب مواجهة كبيرة ومفتوحة مع الإجماع العربي الذي تقوده السعودية، فضلا عن الإجماع الدولي. والحق ان بشار الاسد قد خسر بالرعونة والغرور والدموية المفرطة أسس البقاء، وخسر اكبر حماته، عنينا الملك عبد الله... وغدا سوف يبكي ملكا لم يحافظ عليه كرجال الدولة.::علي حمادة::
"النهار"
0 comments:
إرسال تعليق