الحديث الرابع
"أعترف أننى شعرت براحة نفسية عميقة حينما قرأت للرئيس السادات حديثاً مع جريدة "عكاظ" السعودية ورد فيه على لسانه قوله:
"إننى كنت مع جمال عبد الناصر فى كل همسة"!
ومبعث ارتياحى هو أننى وجدت فى قول الرئيس السادات رداً على هؤلاء الذين يحاولون إدانة جمال عبد الناصر دون أن يؤدى ذلك إلى إدانة النظام الذى قام فى مصر من 23 يوليو 1952 - من أوله إلى آخره!
... يتصورون أنهم بذلك - سذاجةً أو خبثاً؟! - يكررون فى مصر ما يظنونه حدث فى الاتحاد السوفيتى حين أدين ستالين ولم يؤد ذلك إلى سقوط النظام الشيوعى كله.
وفى ظنونهم - أو أوهامهم - أن عبد الناصر قام فى مصر بدور ستالين وأن أنور يقوم بدور خروشوف فى التجربة المصرية!
وهم فى ذلك ينسون - أو يتناسون - فوارق شاسعة بين التجربة المصرية والتجربة السوفيتية.
الاتحاد السوفيتى مثلاً كان يمكن إغلاقه عما حوله.
ومصر يستحيل فيها ذلك مهما كانت القبضة الممسكة بها من حديد لأن شواطئ مصر بمثابة نوافذ مفتوحة على العالم كله وعند نقط مواصلاته.
والاتحاد السوفيتى مثلاً كان يمكن أن يستغنى عما حوله..
ومصر يستحيل أن تستغنى عما حولها لأنها جزء عضوى منه. وطن من أوطان أمة عربية لا تستطيع أن تعيش إلا متصلة بها ولا تقدر على ممارسة دورها إلا فى إطار تأثيرها..
ثم أن التركيب الحضارى مختلف. والعقائد الاجتماعية مختلفة.
وفضلاً عن ذلك فإن جمال عبد الناصر كان شيئاً آخر غير جوزيف ستالين.
ولا أستعمل هنا أوصاف تفضيل كأحسن أو أسوأ لأنى أعتقد أن كل زعامة سياسية تعبر عن مرحلة تاريخية فى سياق من التطور متحرك ومتواصل..
من هنا - ولأسباب أخرى - فإنه من العيب أن يوضع أنور السادات فى الموضع الذى ترويه القصة المشهورة عن خروشوف، حينما وقف فى اجتماع من الاجتماعات يهاجم عهد ستالين ويتحدث عن المظالم التى وقعت فيه وتلقى خروشوف أثناء الاجتماع ورقة مطوية من أحد حضوره كتب فيها:
"أيها الرفيق نيكيتا خروشوف.. وأين كنت أنت عندما جرى هذا كله". وقرأ خروشوف الورقة على حضور الاجتماع ثم لاحظ أن مرسل السؤال لم يضع توقيعه عليه، وسأل:
- من هو صاحب هذا السؤال.. إننى أطلب منه الوقوف لكى أرد عليه..".
ولم يقف أحد.
وساد الصمت على الاجتماع كله.. ثم قال خروشوف:
- "هذا الصمت هو إجابة السؤال.. لقد كنت مع الرفيق الذى لم يضع توقيعه على ورقة أرسلها إلى!".
لا يمكن أن يوضع أنور السادات فى هذا الموضع.
ذلك عيب فى حق الرجل وتاريخه ونضاله وشخصيته، ثم أنه فوق ذلك منافٍ للحق والحقيقة فى الجملة وفى التفصيل..
ولعلى أقول لكى أكون محدداً وواضحاً أننى لا أتشفع فى عبد الناصر بمشاركة أنور السادات له. ولا أنفى أى تهمة عنه وحده، بمسؤولية أنور السادات معه..
ثم إننى كما قلت - وأكرر - لا أبرئ عهد جمال عبد الناصر مما يستوجب النقد..
لكن النقد النزيه شىء، والإدانة الكاملة بالاتهام - يلقى على عواهنه - شىء آخر..
والموضوع فى رأيى أكبر من موضوع عبد الناصر والسادات معاً - لأن الموضوع هو مصر وضميرها وتاريخها ومستقبلها، وهذه الأمة التى أصبناها بالفزع من حولنا!..
وقد أضيف أيضاً ما يلى:
- نعم... إن عبد الناصر مسؤول قبل غيره عن كل شىء وقع فى عهده، وقد كان هو أول من يصر على ذلك ويتمسك به.
أقول ذلك وأتذكر يوم 9 يونيو 1967..
كان عبد الناصر قد طلب إلى أن أعد له مشروع خطابه إلى الأمة بالتنحى، وكنا قد تناقشنا فى الموضوع فى الليلة السابقة وكان رأى متفقاً مع رأيه فى أنه يجب "أن يذهب" بعد أن صارت الأمور فى ميدان القتال إلى ما صارت إليه، ولم يكن فى مقدوره إنسانياً تلك الليلة مع أحزانه وشواغله أن يجلس ليكتب خطاباً، فاتفق معى على نقاطه وتعهدت أن أكتبه له. ووصلت إلى بيته فى الساعة السابعة من صباح يوم الجمعة 9 يونيو.
وكان فى مكتبه لم يذق للنوم طعماً فى تلك الليلة الليلاء وحين دخلت عليه كان التليفون فى يده وكان يتكلم مع أحد القادة العسكريين فى الجبهة يريد أن يضع حداً للفوضى والانهيار اللذين سادا الموقف كله..
وجلسنا بعدها نراجع مشروع الخطاب الذى أعددته له ووصلنا فيه إلى عبارة تقول بالنص:
"وفيما يتعلق بى فإننى على استعداد لتحمل نصيبى من المسؤولية"..
كنت قد كتبت هذه العبارة وأنا أعرف الظروف ولكن جمال عبد الناصر استوقفنى عندها وقال لى بالحرف:
- ما هو معنى أن أقول "إننى على استعداد لتحمل نصيبى من المسؤولية"..
وهز رأسه نفياً قاطعاً ثم قال:
- لا أرضى ذلك لنفسى... إننى تاريخياً أتحمل المسؤولية كلها ويجب أن أقول ذلك للناس".
وغيرت النص بعد إصراره على النحو الذى رآه.
أروى تلك الواقعة دلالة على أن جمال عبد الناصر نفسه أول الراضين - والمصرّين- على أن يتحمل المسؤولية كلها، عن كل ما جرى فى عهده.
... لكننا عندما نقول بذلك يجب أن ننصب ميزاناً لهذه المسؤولية يفرز الخطأ عن الصواب، والإيجابى عن السلبى، والحقيقة عن الادعاء!
ثم أن علينا بعد ذلك أن نضع الوقائع فى إطارها، والتصرفات فى ظروفها، والخيارات فى حدود المتاح منها وقتها - وإلا كنا بمثابة من يدعى الحكمة بأثر رجعى، أو يطلب عصمة الآلهة لأحكام البشر!..
... فى حدود هذا المنطق وبالقرب منه فسوف أختار ثلاث وقائع ينسب إلى جمال عبد الناصر أنه تصرف فيها كما يتصرف "سفاح" - هكذا قيل وبالحرف!
"سفح " دم أبناء مصر على جبال اليمن، و"سفح" دم العدالة فى مذبحة للقضاء، و"سفح" دم الحرية بإغلاق الصحف!
سوف أبدأ باليمن فأسأل:
- هل يمكن أن يكون هناك تقييم للتدخل العسكرى المصرى فى اليمن لا يأخذ فى حسابه الظروف السياسية التى كانت تسود العالم العربى وقتها؟
كان ذلك بعد مؤامرة الانفصال، ونحن نذكر ملابساتها وما جرى فى سوريا وقتها، وكان ذلك فى أعقاب مؤتمر "شتورة" الذى اتخذه النظام الانفصالى فى سوريا منبراً للهجوم على الحركة الوطنية العربية، وكان يبدو أن القوى المعادية للتقدم العربى تريد أن تخنق كل صوت ينادى بالتحرر العربى..
وفى ذلك الوقت جاءت ثورة اليمن، وانقضت عليها العواصف، ولا أريد أن أعود إلى التفاصيل حتى لا أنكأ جراحاً قديمة شفاها الزمن فيما أتمنى..
وفى يوم عصيب من أيام شهر أكتوبر 1962 كانت ثورة اليمن الوليدة وحدها فى مهب العاصفة.
وفى القاهرة كانت هناك مشاورات مستمرة بعد أن طلبت الثورة الوليدة نجدة من مصر بدورها وحجمها فى العالم العربى فى ذلك الوقت..
وكان أنور السادات أكثر الناس اهتماماً بهذا الموضوع فى القاهرة لأن اختصاصه السياسى فى القيادة المصرية كان يشمل ضمن ما يشمل شئون اليمن والجنوب العربى والخليج، وكانت توصية أنور السادات - فى نطاق اختصاصه - تتلخص فى أن مصر لا يسعها أن تتفرج على ما يجرى فى اليمن مكتوفة اليدين، وأن الواجب القومى يحتم عليها أن تتدخل عسكرياً - خصوصاً بالطيران - لرد العاصفة عن الثورة اليمنية.
ودارت مناقشات واسعة حول هذه التوصية..
وأتذكر أنه كان لى فى الموضوع رأى يختلف، وقد قلته لجمال عبد الناصر، وأتجرأ فأقول ذلك لأن جمال عبد الناصر أشار إلى رأيى فى آخر جلسة حضرها لمجلس الوزراء قبل رحيله، وما قاله فى هذا الصدد مسجل بصوته فى وثائق مجلس الوزراء... شاهداً ومرجعاً..
كان رأيى فى ذلك الوقت يتلخص فيما يلى:
- أننى لا أعرف إذا كانت الظروف الموضوعية فى اليمن مهيأة لنجاح الثورة..
- ثم أننى لا أعرف إذا كانت الثورة التى قامت فى اليمن تستطيع أن تتحمل عملياً ثقل التدخل العسكرى المصرى فى اليمن، وبواسطة القوات المسلحة المصرية.
وسألنى جمال عبد الناصر سؤالاً مباشراً:
- هل معنى ذلك أن نترك الثورة اليمنية وحيدة يسهل ضربها... وماذا يحدث للحركة العربية العامة إذن؟
وقلت:
- إننى أدرك أهمية نجدة ثورة اليمن، ولهذا فإنى أقترح تشكيل قوات متطوعين عرب من كل البلاد العربية يذهبون إلى اليمن للقتال فى صفوف الثورة".
وأضفت متحمساً:
- لماذا لا نجعل اليمن معركة شعبية للحرية بمثل ما كانت الحرب الأهلية فى أسبانيا معركة شعبية للحرية، وحتى لو أننا خسرنا المعركة فإن الخسارة ستتحول إلى أسطورة فى النضال العربى تلهم وتلهب خيال أجيال بعد أجيال..
ذلك أسلم فى رأيى من الزج بالقوات المسلحة المصرية فى ظروف شاقة معظمها مجهول..".
ثم قلت للرئيس وقتها:
- لدى دراسة قام بها باحث مصرى عن الأحوال فى اليمن وعن تاريخه المعاصر، وأريدك أن تقرأها، وسوف أرسلها لك..
(أشار جمال عبد الناصر إلى هذه الدراسة فى التسجيل الموجود بصوته فى سجلات مجلس الوزراء فى آخر جلسة حضرها قبل الرحيل).
كان الرأى المقابل لرأيى وقتها يتلخص فيما يلى:
- أن أمن ومستقبل الحركة الوطنية العربية معلق فى الميزان..
- أن الوقت لا يحتمل التردد، وإلا ضاعت الثورة اليمنية..
- أن تدخل بعض قوات الصاعقة، وسرب واحد من الطيران يكفى..
وبهذا المنطق تدخلت مصر لنجدة الثورة فى اليمن وكان أنور السادات - ولمدة خمس سنوات متصلة - هو المسؤول الذى تولى إدارة الجهد السياسى المصرى فى اليمن فى حين أن عبد الحكيم عامر كان المسؤول عن الجهد الحربى..
وأعترف الآن - وهذه شهادة صدق - أن أنور السادات كان على حق فى مناداته بالتدخل العسكرى لحماية الثورة فى اليمن وأننى كنت على خطأ لأننى نظرت إلى الموضوع من وجهة نظر مصرية إقليمية بحتة، وذلك لا يجوز إزاء مسؤولية مصر ودورها القومى..
ذلك لأن الزاوية القومية هى الزاوية التى يجب أن نقيس منها التدخل فى اليمن، فلقد أحدث التدخل المصرى فى اليمن آثاراً واسعة المدى ألخصها فيما يلى:
1- لقد خرج الاستعمار البريطانى من شبه الجزيرة العربية واستقل الجنوب واستقل الخليج.
2- تحت ضغط التدخل المصرى فإن السيطرة الأمريكية اضطرت إلى إرخاء قبضتها المسيطرة على الموارد العربية فى شبه الجزيرة واتخذت موقفاً أكثر تلاؤماً مع الأنظمة الوطنية وسمحت لها بدور متزايد فى توجيه أمور ثرواتها..
3 - إن الدول الوطنية فى هذه المنطقة اتجهت تحت ضغط الظروف إلى "التحديث" وقد كان من النتائج المباشرة لتطورات المعارك فى اليمن أن اعتلى الملك فيصل عرش السعودية، وبدأت عملية "التحديث" فى المملكة تحت توجيهه، وراحت الأسرة فى السعودية تتحول إلى دولة..
وهذه كلها منجزات تاريخية ضخمة لا يمكن تقييم التدخل المصرى فى اليمن بغير إدخالها فى الحساب بصرف النظر عن الثمن الذى دفعته مصر.. وإذا أردنا أن نناقش الثمن الذى دفعته مصر فإن ذلك سوف يقودنا إلى تأمل الظروف التى اتسعت فيها حرب اليمن..
إن الحرب اتسعت لا لأن هذا الطرف العربى أو ذاك تدخل فيها، وإنما اتسعت الحرب حينما تدخلت فيها قوى السيطرة العالمية، وفى مقدمتها إدارة المخابرات المركزية الأمريكية التى جندت للحرب آلافاً من الجند المرتزقة الأجانب - إنجليز وألمان وفرنسيين وأمريكيين - وقصة هؤلاء ذائعة مشهورة، ولكن ذاكرتنا ضعيفة ننسى بسهولة ما هو حقٌ لنا ونبتلع بسهولةٍ دعاوى الآخرين علينا..
ننسى أنه فى وقت من الأوقات كان هناك أكثر من خمسة عشر ألفاً من الجنود المرتزقة الأجانب فى اليمن..
وننسى أن لندن - كما حدث فى حالة أنجولا - كانت مركز تجنيدهم وتسليحهم وإرسالهم إلى اليمن..
أكثر من ذلك.. ماذا أقول؟
هل أقول - والقول صحيح - أن المخابرات المركزية الأمريكية كانت تجند المرتزقة الأجانب للحرب فى اليمن وأنها كانت مسؤولة عن عملياتهم وعن التنسيق بينهم وبين دور لإسرائيل فى مساعدتهم؟
هل أقول - والقول الصحيح - أن إسرائيل كانت تتولى مسؤولية إلقاء الذخائر والأسلحة بالطائرات لهؤلاء الجنود المرتزقة الأجانب فى مناطق محددة فى جبال اليمن؟.
هل أقول - والقول صحيح - أن الرئيس الأمريكى جون كنيدى كان يعلم بحقيقة ما يجرى فى اليمن، وكان أحد مساعديه وهو المستر كومار هو ضابط التنسيق بين البيت الأبيض وإدارة المخابرات المركزية الأمريكية، وكان كنيدى يسمى حرب اليمن بقوله:"حرب كومار الخاصة"؟.
وإذا قلت بذلك - إذن ألا نكون وضعنا حرب اليمن فى سياقها الصحيح من قصة النضال العربى المعاصر..
- إطارها مسؤولية مصر القومية..
- ظروفها الصراع المتصل بين الحركة الوطنية العربية وبين قوى السيطرة العالمية.
- ونتائجها ليس فقط ما دفعته مصر من تضحيات فى اليمن، ولكن هذا التحول الضخم الذى نراه الآن فى شبه الجزيرة العربية، وعند طرفها الجنوبى، وعلى شطان الخليج!..
مذبحة القضاء وسفح دم الحرية:
أنتقل الآن إلى واقعة "سفح" دم العدالة "بمذبحة القضاء"، وسوف أروى بشأنها ما أذكره من ظروفها، وأعتمد أن ذاكرتى ما زالت سليمة..
أقول أولاً أن جمال عبد الناصر لم يتدخل فى حياته فى حكم من أحكام القضاء، وكان لديه ذلك الإحساس العميق بقدسية العدل، وهو إحساس له جذوره البعيدة فى المجتمع المصرى بحكم التكوين الحضارى لشعب استقرت حياته فى بيئة زراعية رسخت فيها فكرة الاحتكام إلى قانون القضاء..
وأتذكر الحرج الذى أحس به يوماً حين جاءه خطاب مكتوب من "الملك سعود" يرجوه فيه أن يتدخل لكى تحصل "السيدة ناريمان" ملكة مصر السابقة على طلاق من زوجها "الدكتور أدهم النقيب". وكانت "ناريمان" قد لجأت إلى الملك. وكان النزاع بين الزوجين قضية أمام محاكم الأحوال الشخصية فى مصر وصلت إلى حد أن طلب الزوج زوجته فى بيت الطاعة واستصدر حكماً قضائياً بما طلب..
وأرانى جمال عبد الناصر خطاب الملك سعود إليه بتوقيعه وهو يقول:
- إننى أريد أن أجامل الرجل فى أى شىء يطلبه منى.. ولكنه قصدنى حيث لا أستطيع أن أجيب طلبه، ولا أعرف كيف أرد عليه، وهل يصدقنى إذا قلت له أننى لا أستطيع أن أتدخل فى أعمال محكمة شرعية؟ وكيف أتدخل؟!"..
رويت هذه الواقعة الصغيرة كمقدمة فقط!
وأصل منها إلى الظروف التى أحاطت بما أطلق عليه وصف مذبحة القضاء فى صيف سنة 1969.
فى صيف ذلك العام 1969 كان جمال عبد الناصر فى إجازة إجبارية بالإسكندرية، كان مقرراً أن يسافر فى ذلك الصيف للعلاج الطبيعى مرة ثانية فى مصحة "تسخالطوبو" فى الاتحاد السوفيتى، ولكن تطورات حرب الاستنزاف عوقته عن السفر، وأجل سفره أسبوعاً بعد أسبوع، ثم ألغى سفره فى تلك السنة تماماً ليكون بقرب المعارك الدائرة على الجبهة ونصحه الأطباء بأسبوعين على الأقل يقضيهما فى إجازة كاملة.
ولكن شواغله كانت تلح عليه، ولا تمنحه الفرصة التى يلح عليها أطباؤه..
وسمعت منه ذات مرة خلال تلك الفترة فى الإسكندرية أن بعض المشاكل فى مجال القضاء تطرح نفسها عليه، وأن تقارير أمامه تشير إلى أن بعض المحاكم تطرد فلاحين من أراضيهم المستأجرة لصالح كبار الملاك، ثم أن بعض هذه التقارير يشير إلى أن بعض القضاة الذين أصدروا مثل هذه الأحكام سبق أن طبقت عليهم أو على أسرهم أحكام قانون الإصلاح الزراعى..
وكان رأيه أن ذلك وضع لابد من بحثه، وأنه شكل لذلك لجنة خاصة سوف تقدم إليه توصياتها، وكان بين أعضائها السادة شعراوى جمعة وسامى شرف والمستشار عمر الشريف المستشار القانونى لرئاسة الجمهورية وآخرون... ولاحظ هو تحفظى على ما سمعته منه فأضاف:
- "إننى وضعت أنور السادات على رأسهم لكى يتابع ما يفعلون، وهو بينهم الذى يتصل بى".
ورغم أننى أحسست بارتياح إلى وجود أنور السادات بالقرب من عمل هذه اللجنة، فإن الحساسية الخاصة لموضوع القضاء جعلتنى أفكر، وأحاول من بعيد متابعة عمل اللجنة وأسأل كثيرين من المتصلين بالمسألة وبينهم المستشار ممتاز نصار رئيس مجلس إدارة نادى القضاة، وقد لقيته فى تلك الفترة أكثر من مرة..
وذات مرة فى الإسكندرية كنت على موعد مع جمال عبد الناصر فى استراحة المعمورة فى الساعة الثانية عشرة ظهراً، وكنت أريد أن أكلمه - ضمن موضوعات أخرى - فى مسألة القضاء..
ولكى أكون مستعداً دعوت الدكتور جمال العطيفى وهو المستشار القانونى للأهرام وقتها ووكيل مجلس الشعب الآن، إلى لقائى فى الصباح الباكر من ذلك اليوم، وأثرت معه موضوع القضاء تفصيلاً، وسمعت منه رأيه وهو رأى خبير يدرك أهمية وخطورة وجلال تناول موضوع له هذه الحساسية.. وطال حديثنا إلى قرب الظهر، وراودنى إحساس بأن جمال عبد الناصر يجب أن يسمع ما سمعت من جمال العطيفى ولكن كيف؟!
وقلت لجمال العطيفى:
- "إننى على موعد مع الرئيس، وسوف أقول له ما سمعت منك، وأريدك أن تركب معى فى سيارتى وتنتظر فيها، حتى إذا ما احتجت إلى أية تفاصيل أثناء حديثى مع جمال عبد الناصر خرجت فاستوضحت منك ما أريد".
وذهبنا إلى المعمورة ودخلت مكتب جمال عبد الناصر وسيارتى فى الخارج ينتظرنى فيها جمال العطيفى..
وفتحت الموضوع..
قلت أن مسألة القضاء حساسة، فهو مرفق فى مصر مقدس، وأى اقتراب منه يجب أن يكون بمنتهى الدقة والتحرز.
ثم قلت إننى تحدثت فى هذا الموضوع مع خبراء يعرفون أهميته وقدره وبينهم جمال العطيفى الذى كان معى هذا الصباح وحتى الظهر وكان بودى لو أن الرئيس استطاع أن يسمعه مباشرةً..
ثم أضفت:
- لقد فكرت أن أجىء بجمال العطيفى ليقابلك معى وحتى تسمع منه ولكنى ترددت.
قلت ذلك وانتظرت..
وقال جمال عبد الناصر:
- ليتك فعلت... إننى حقيقةً أريد أن أسمع رأى خبير لا علاقة له بجهاز الدولة.. كثيراً ما حاولت ذلك فى مسائل أخرى ولكنهم يجيئون أمامى فلا يتكلمون.
قلت:
- أظن أن جمال العطيفى يمكن أن يتكلم خصوصاً إذا كنت معه.
وقال الرئيس:
- ليس لك حق أنك لم تأت به.
وقلت معترفاً:
- جمال العطيفى معى فى سيارتى هنا فى المعمورة ولم أقل له أن هناك احتمالاً لأن يراك، وإنما قلت له أننى قد أحتاج إلى استيضاح بعض الأمور منه إذا احتجت لذلك..
وقال عبد الناصر:
- اذهب وأتِ به؟..
وخرجت إلى سيارتى وجمال العطيفى ينتظرنى فيها أقول له إن الرئيس يطلبه.
وفتحت الدهشة فمه ولكنه سار معى. وقلت له ونحن ندخل البيت:
- جمال، هذه فرصة لا تعوض... وأرجوك أن تتكلم بنفس الصراحة التى كنت تتحدث بها معى.
ودخلنا على جمال عبد الناصر.
بعد عشر دقائق من الحديث كان جمال عبد الناصر قد أزال بحديثه البسيط كل أثر للدهشة والرهبة عند رجل لم يكن يعرف أنه سيلقاه، ولم يكن مستعداً للقائه.
ثم استمرت جلستنا فى شرفة بيت المعمورة لمدة قاربت الثلاث ساعات.
وكان جمال العطيفى يتكلم، وكان جمال عبد الناصر يسأل ويستوضح ويستوثق.
وفى النهاية قال الرئيس:
- جمال.. هل عندك مانع أن تنضم إلى اللجنة التى تقوم بدراسة الموضوع..؟ وكان رد جمال العطيفى "أنه يشرفه القيام بأى خدمة يطلبها منه الرئيس".
وأحسست بعد هذه المقابلة أننى أديت واجبى كمواطن وكصديق لجمال عبد الناصر.
وكان منطقى أنه إذا كانت اللجنة التى تبحث موضوع القضاء تعمل تحت رقابة أنور السادات ويشترك فى أعمالها جمال العطيفى - إذن فالأمور فى مسارها الصحيح.
وصدرت بعد ذلك يوم 31 أغسطس 1969 إجراءات فى مجال القضاء، وأثارت هذه الإجراءات ردود فعل كان يمكن أن يسمعها جمال عبد الناصر ويستجيب لها، ولكن الثورة فى ليبيا قامت يوم أول سبتمبر سنة 1969، وشدت الانتباه كله إلى ناحية أخرى.
وإذن أمام عينى لم يكن الرجل مندفعاً بشراسة قاتل -!- إلى مذبحةٍ للقضاء.
لقد كانت أمامه مشكلة اجتماعية سياسية رآها من وجهة نظره - خطأً أو صواباً - تتطلب حلاً.
وشكل لجنة لدراستها والتوصية بما يمكن عمله حيالها، ضمن أعضائها مستشار الرئاسة القانونى، ووضع فوق اللجنة زميلاً له موثوقاً به ليتابع أعمالها.
ثم كان على استعداد لأن يسمع.
بل وكان على استعداد لأن يناقش أكثر مع من يستطيع مناقشته فى موضوعه ولو بغير موعد سابق.
وليكن أن شيئاً ما فيما اتُخِذ من إجراءات، جانبه التوفيق، ليكن.
لقد كان ممكناً دراسة ما حدث وتحقيقه وتصحيحه وحتى الحساب عن أى تجاوز فيه بدون حملات كراهية ضد رجل نقل أحكام القضاء فى مصر كلها من الصدور باسم ملك طاغية إلى الصدور باسم الشعب وتحت سيادته...
ثم أصل إلى قصة "سفح" دم الحرية بمصادرة الصحف.
وأظن أن القائلين بها يقصدون واقعة إغلاق جريدة "المصرى" التى كان يملكها "الأستاذ محمود أبو الفتح" والتى كان يرأس تحريرها أخوه "الأستاذ أحمد أبو الفتح".
وكان "أحمد أبو الفتح" قد تعرف إلى جمال عبد الناصر عن طريق صهره "ثروت عكاشة" الذى كان عضواً مرموقاً فى حركة الضباط الأحرار.
وكان صوت الأستاذ أحمد أبو الفتح من الأصوات المسموعة لدى مجلس الثورة فى الفترة الأولى فقد كان دوره - وسط مجموعة الشباب التقدمى الجديد الذى ظهر فى حزب الوفد وعلى اليسار من التيار الرئيسى فيه - دوراً ظاهراً ومن هنا كان طبيعياً أن يكون الأستاذ أحمد أبو الفتح" حلقة الاتصال بين النظام الثورى الجديد وبين حزب الوفد الذى كان حزب الأغلبية حتى ذلك الوقت.
ومع بداية سنة 1953 كانت الخلافات قد بدأت تدب فى العلاقات ما بين جمال عبد الناصر والأستاذ أحمد أبو الفتح وكانت لهذه الخلافات ثلاثة أسباب:
أولها - سبب سياسى ذلك أن معنى الديمقراطية لم يكن واحداً بالنسبة للاثنين:
- كان جمال عبد الناصر يرى أن أى تعبير سياسى انعكاس لحقائق اجتماعية واقتصادية، وإذا كان مطلوباً إقامة ديمقراطية سياسية سليمة فى مصر تعبر عن رأى الأغلبية وسلطتها فإن ذلك لا يتأتى إلا إذا كانت الحقائق الاجتماعية والاقتصادية فى الوطن تعطى لهذه الأغلبية وزنها وثقلها.
وكان جمال عبد الناصر يرى أن إجراء أى انتخابات قبل إجراء تغييرات اجتماعية اقتصادية تعطى الأغلبية وزنها وثقلها الاجتماعى والاقتصادى لن يكون من شأنه إلا أن يعيد إلى السلطة نفس العناصر القديمة التى تمثل الطبقة المتميزة فى مصر والتى تسيطر على الحقائق الاجتماعية والاقتصادية فيها، وهذا يصبح بمثابة العودة إلى دكتاتورية الأقلية الطبقية تحت اسم الديمقراطية.
- وكان رأى الأستاذ أحمد أبو الفتح يختلف عن ذلك، فقد كان يرى أن حل مشكلة الديمقراطية هو بإجراء الانتخابات فوراً، وعلى أى حال فقد كان ذلك منطقياً مع موقفه ومع انتمائه إلى حزب الوفد.
وثانيها - سبب نفسى ومرجعه فيما أظن إلى أن الأستاذ أحمد أبو الفتح بالغ - ربما بحسن نية - لدى أصدقائه القدامى فى أهميته بالنسبة لأصدقائه الجدد..
وبالتالى فقد كان حزبه وكانت جماعته وكانت أسرته تنتظر منه أن يحقق لهم جميعاً أشياء عجز عن تحقيقها، وبإحساسه بالحرج فقد تحول خلاف الرأى إلى عناد ثم إلى عداء.
ثالثها - سبب يعود إلى أن الأستاذ أحمد أبو الفتح كان يشعر بوفاء شديد لأخيه الأستاذ "محمود أبو الفتح" ويعتبره وهذا صحيح "ولى نعمته" - وهذا تعبيره بالحرف لى وقتها - ولكن الأستاذ محمود أبو الفتح كان قد ترك الصحافة وجريدة المصرى لأحمد أبو الفتح وتفرغ هو تماماً لدور رجل الأعمال.
وأحس أحمد أبو الفتح أن أخاه لا يأخذ ما يعتبره هو حقاً له وأن فرصاً كثيرة ضاعت أو ضيعت عليه لأسباب لا يعرفها.
ولعل أكثر يوم شعرت فيه بأبعاد أزمة أحمد أبو الفتح، هو يوم أتيح لى أن ألتقى فيه بالأستاذ محمود أبو الفتح فى بيروت فى شهر يناير من سنة 1954.
كنت عائداً من دمشق عن طريق بيروت، وفى فندق "سان جورج" التقيت بالأستاذ محمود أبو الفتح ووقفنا فى ردهة الفندق نتبادل أحاديث مجاملات، ثم سألته عن أحمد وكان قد غادر القاهرة إلى جنيف، وقال لى الأستاذ محمود - وللرجل مكانته بالنسبة لأى صحفى بوصفه واحداً من الرعيل الأول من بناة الصحافة المصرية الحديثة - سواء اتفق أو اختلف مع آرائه ومواقفه - إنه يريد أن يجلس لحديث طويل معى عن العلاقات بين جمال عبد الناصر وأحمد أبو الفتح.
وجلسنا نحن الاثنين تلك الليلة فى ركن من صالون السان جورج نتحدث حتى الساعة الرابعة صباحاً.
وبعد أيام من عودتى إلى القاهرة كان الأستاذ محمود أبو الفتح قد اتصل بالدكتور السيد "أبو النجا" المدير العام المصرى وقتها، وهو فى نفس الوقت موضع ثقة الأسرة كلها، وطلب إليه أن يتصل بى لكى نرتب "ما اتفقنا" عليه فى بيروت.
وكنا قد اتفقنا على ترتيب مقابلة بين جمال عبد الناصر والأستاذ أحمد أبو الفتح.
والتقيت مع الدكتور السيد أبو النجا الذى كان وما يزال صديقاً مقرباً لى وكان يريد أن يستوثق من نقطة واحدة:
- "إنه سوف يطلب إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح أن يركب الطائرة من جنيف إلى القاهرة، فهل أضمن عودته إلى جنيف مهما كانت نتائج مقابلته مع جمال عبد الناصر"؟.
وقلت للدكتور السيد أبو النجا وهو المشرف العام على "دار المعارف" اليوم:
- إننى أتعهد أن أكون فى استقبال الأستاذ أحمد أبو الفتح عند وصوله بالطائرة من جنيف وأتعهد أن أكون فى وداعه بعد المقابلة على سلم أول طائرة عائدة إلى جنيف!".
وجاء الأستاذ أحمد أبو الفتح وذهبنا معاً إلى بيت جمال عبد الناصر وجلسنا نحن الثلاثة لحديث طال أربع ساعات، وفى الواقع فقد كان الحديث بين الاثنين، وكنت أتابع ما يدور بينهما صامتاً، أتدخل أحياناً عندما تظهر عقدة فى حباله!.
لكن الخلاف كان واضحاً بين الاثنين فى الآراء وفى المواقف وارتفعت درجة حرارة الحديث مرتين:
مرة عندما أثار جمال عبد الناصر مسألة الاتصالات التى يقوم بها الأستاذ محمود أبو الفتح فى "أوروبا" وفى العالم العربى - خصوصاً مع "نورى السعيد" رئيس وزراء "العراق" وقتها، وكان رد الأستاذ أحمد أبو الفتح أن علاقات أخيه بنورى السعيد هى علاقات رجل أعمال يورد مهمات لمشروعات تنفذ فى العراق، إلى جانب اهتمامه بتوريد السلاح كوكيل لبعض شركاته.
وكان رأى جمال عبد الناصر - بناء على معلومات لديه بالطبع - أن الصلات والاتصالات فيها عنصر سياسى!.
ثم ارتفعت درجة حرارة الحديث مرة أخرى عندما تساءل الأستاذ أحمد أبو الفتح:
- لماذا تضار مصالح أخى محمود فى مصر، ولا يحصل على حقه؟
وسأله جمال عبد الناصر:
- وهل حدث ذلك؟.
- وردَّ الأستاذ أحمد أبو الفتح قائلاً:
- نعم... إن أخى تقدَّم لمشروع أتوبيسات النقل فى القاهرة ولكن "عبد اللطيف أبو رجيلة" أخذ المشروع ولم يأخذه محمود أبو الفتح.
- ثم إن محمود أبو الفتح تقدم وكيلاً عن شركة سلاح يعرض بندقية من عيار 86 وهذه هى البندقية التى أقرّت "لحلف الأطلنطى"، ومعنى ذلك أنها ممتازة، ولكن اللجنة العسكرية التى تشرف على مشتريات السلاح رفضتها!".
وبدت الدهشة على وجه جمال عبد الناصر وسأل:
- "وهل تتصور أن لى علاقة بذلك أو أننى أتدخل فى مثل هذه الشئون، هذه مسائل تقررها الوزارات المسؤولة".
وبدا الضيق على ملامح جمال عبد الناصر وشاع الأسف فى نبرة صوته وهو يقول بالحرف:
- "جرى إيه يا أحمد.. أتوبيسات إيه؟ وبنادق إيه؟".
وكان واضحاً أمامى أن الحديث سار إلى طريق مسدود.
وذهبت لوداع الأستاذ أحمد أبو الفتح طبقاً لما تعهدت به، وأقلعت الطائرة التى استقلها إلى "جنيف" ورويت تفاصيل ما حدث للدكتور السيد أبو النجا، وشعورى هو أن القصة لم تتم فصولها!
وفى الأسابيع التالية بدأت أسمع من جمال عبد الناصر أكثر من مرة - وبأسف أكثر من غضب - عن النشاط المنسوب إلى الأستاذ محمود أبو الفتح فى "أوروبا" وفى بعض العواصم العربية وبالذات بغداد "نورى السعيد".
ثم عرفت يوم 27 أبريل 1954 أن نشاط الأستاذ محمود أبو الفتح أحيل إلى "محكمة الثورة" وأن قرار الإدعاء ضده ينص على:
"أنه أتى أفعالاً ضد سلامة الوطن ومن شأنها إفساد أداة الحكم وذلك أنه فى غضون سنة 1954 وما قبلها ارتكب الأفعال التالية:
1- قام بدعايات واتصالات ضد نظام الحكم القائد بقصد تقويض النشاط القومى للبلاد.
2- أغرى موظفاً عمومياً بطرق غير مشروعة على المساهمة فى إتمام صفقة تجارية لمصلحته الذاتية.
وفى يوم 2 مايو 1954 أصدرت محكمة الثورة حكمها وكان الحكم إلى جانب السجن والمصادرة، ينص بالحرف على "سحب رخصة جريدة المصرى منه، وبذلك تتعطل الجريدة عن الصدور ابتداءً من اليوم".
كان تشكيل محكمة الثورة التى حاكمت على النحو التالى:
قائد الجناح عبد اللطيف البغدادى رئيساً.
القائد أنور السادات عضو يمين.
قائد الأسراب حسن إبراهيم عضو يسار.
كان هؤلاء الثلاثة هم القضاة الذين وضعوا أيديهم على المصحف الشريف وأقسموا أن يراعوا الله والوطن والضمير فى أحكامهم.
ثم عرض الحكم للتصديق على مجلس الثورة، وكان رئيسه اللواء محمد نجيب وتمت الموافقة عليه.
ثم...
ماذا أقول بعد ذلك؟!.
0 comments:
إرسال تعليق