تواصل سوريا انحدارها البطيء نحو الهاوية مع تصاعد العنف وتفاقم المأساة التي لا تبدو لها نهاية في الأفق، فقد بات واضحاً اليوم بعد عام تقريباً على اندلاع الأحداث أنه لا أحد من الأطراف المتصارعة هناك قادر على حسم المعركة وتحقيق النصر، ما يؤكد في النهاية صدق مقولة "أنه لا غالب ولا مغلوب". وفي بلد مثل سوريا تنخره الانقسامات العميقة تبرز مجموعة من السيناريوهات المحتملة للوجهة التي يمكن للأزمة الحالية أن تسلكها. والسيناريو الأول مؤداه أن نظام الأقلية سيستمر في القمع والسيطرة على البلاد، وهو أمر يشبه إلى حد ما العراق في وقت سابق. والسيناريو الثاني يذهب إلى احتمال اندلاع حرب أهلية ممتدة مثلما جرى في لبنان. فيما يشير السيناريو الثالث إلى احتمال التوصل إلى هدنة بين جميع الأطراف تضمن قدراً من التعايش المعقول في وضع يشبه إلى حد ما الحالة اللبنانية الراهنة. والسيناريو الرابع هو انبثاق نظام ديمقراطي كامل مع اندماج جميع المواطنين باختلافاتهم الدينية والعرقية في إطار دولة القانون والمواطنة. وإلى حد الآن، وحسب ما يبدو من الصورة العامة، تبقى سوريا منجذبة أكثر إلى السيناريوهين الأول والثاني، فالنظام من ناحيته تصرف بسوء بالغ ووحشية مفرطة عندما واجه المظاهرات السلمية في البداية بالقمع والعنف الأهوجين، وهذا ما زاد من تأجيج المعارضة التي لجأت، رداً على بطش النظام، إلى حمل السلاح واتباع منحى عسكري واضح، وبالطبع صب ذلك في مصلحة النظام الذي وجد من المبررات ما يكفي لمواصلة حملته القمعية.
ولكن بعدما أدرك النظام أنه لا مناص من إدخال بعض التغييرات اقترح سلسلة من المبادرات الإصلاحية الكاذبة، ولأنها جاءت بإملاءات فوقية وبهدف واضح هو تعزيز سلطة النظام، فقد رُفضت الإصلاحات من قبل المعارضة باعتبارها خطوة متأخرة وغير كافية، أو لأنها مجرد مناورة مكشوفة من النظام. وفي الحقيقة أن النظام السوري يبدو طغمة عسكرية حاكمة أكثر من كونه حكومة مدنية، فليس حزب "البعث" الذي يدعي إدارة الدولة سوى هيكل متحجر وفاسد تؤطره مجموعة من الموظفين المرتعبين من بطش الآلة العسكرية والخاضعين لليد الأمنية الطولى للزمرة الحاكمة.
أما المعارضة فهي منقسمة أيضاً وغير فعالة وتتشكل أساساً من مجموعة من المعارضين المقيمين في المنفى الذي تآلفوا في إطار مجلس وطني، فيما المعارضة الداخلية التي كانت ناشطة من قبل مازالت تجتمع بين الفينة والأخرى للتعبير عن آرائها في تعاون مع اللجان التنسيقية التي تنشط في الميدان، وهي المجموعة المسؤولة عن تنظيم السكان والخروج في مظاهرات ونقل المعلومات عما يجري داخل سوريا إلى العالم الخارجي. وفي الآونة الأخيرة انضم إلى المعارضة الداخلية الضباط والجنود الذين انشقوا عن الجيش النظامي، مشكلين جماعات مسلحة تحارب النظام، مطلقة بذلك الصراع الدامي الذي تشهده بعض الأحياء والمدن السورية. وبعد عام على الثورة يظهر بوضوح أن النظام الذي فقد أية شرعية لدى الشارع وقسم كبير من السكان بسبب قمعه الوحشي للمدنيين، مازال يحظى بتأييد بعض الفئات الأخرى من الشعب، فيما المعارضة نفسها ليست مستعدة بعد لتمثيل جميع أطياف الشعب السوري، ومن هنا تبرز صعوبة الأزمة السورية واستعصاؤها.
والأسوأ من ذلك أن الأزمة السورية التي بدأت كنوع من التدافع الداخلي بين قوى سورية ذات رؤى متباينة تحولت مع الوقت إلى صراع إقليمي ودولي حول سوريا بين الشرق والغرب، وبين العرب وإيران، مع دخول البعد الطائفي على الخط. وهكذا في الوقت الذي حصلت فيه المعارضة على دعم من أعضاء في الجامعة العربية ومن تركيا والغرب، يستفيد النظام السوري من تأييد روسيا والصين وإيران وحلفائها، الأمر الذي يشعره بالقوة وإمكانية الاستمرار. والمشكلة أن الأطراف المنخرطة في هذا الصراع، أو تلك التي تستعد للانخراط، لا تملك أي جديد تضيفه لحل الأزمة، أو تغيير المعادلة، فبالنسبة لأولئك الذين يقترحون تسليح المعارضة لا يجيبون عن أسئلة جوهرية مثل تسليح مَن؟ ولأي هدف؟ وقد سبق لمساعد وزيرة الخارجية الأميركي جيفري فيلتمان أن حذر خلال شهادته أمام الكونجرس في الأسبوع الماضي من أن تسليح المعارضة سيكون بمثابة "صب الزيت على النار"، مشيراً إلى التداعيات الخطيرة والدموية لذلك. ولكن في المقابل أيضاً تجاوز النظام السوري خط العودة ولا يمكن أبداً الرجوع إلى ما كان عليه الوضع قبل الثورة، كما أن مزيداً من الدعم للنظام من قبل حلفائه يسهم من جانبه في إدامة القتل والتنكيل. وفيما يواصل الوضع خروجه عن السيطرة لابد من إشراف خارجي تحتاجه الأزمة السورية، وهنا يأتي دور الولايات المتحدة ومعها الجامعة العربية وتركيا، مع ضرورة إشراك كل من روسيا والصين. وفي ظل صعوبة الوصول إلى السيناريو الرابع وتحقق أمل الديمقراطية الكاملة يبقى الحل الأقرب هو في التوصل أولاً إلى هدنة تقود إلى مفاوضات تنتهي بتشكيل ترتيبات جديدة للحكم، وهذا إلى حد الآن هو أفضل ما يمكن الوصول إليه، بل قد يكون البديل الوحيد عن الدخول في حرب أهلية ممتدة تهز استقرار المنطقة. ولكن كيف يمكن الوصول إلى هذه التسوية؟
لابد من الضغط على الأطراف المتصارعة ودفعها إلى وقف إطلاق النار ثم الدخول في مفاوضات تقود إلى تشكيل حكومة انتقالية، ولأنه لا أحد سيوافق على هذا الحل بسهولة، لا النظام ولا المعارضة، بسبب الشعور المتواصل بإمكانية حسم المعركة وتحقيق النصر، فإنه لابد من الضغط الخارجي، وهنا يتعين على الجميع، الروس والأميركان، أن يدركوا أن استمرار الأزمة يهدد الأمن الإقليمي، ولعل البداية الجدية لهذا التفاهم هو اللقاء المرتقب خلال الأسبوع الجاري بين الجامعة العربية والروس الذي ينبغي أن يتم فيه التوافق على دعم الحل السلمي بأن يضغط كل طرف على حلفائه داخل سوريا -الروس على النظام والجامعة العربية على المعارضة- وذلك حتى لا يتضخم الصراع ويحرق سوريا والجوار.
0 comments:
إرسال تعليق